دستور 2022، محطة متجدّدة في المكر بأمة الإسلام

دستور 2022، محطة متجدّدة في المكر بأمة الإسلام

ليس غريبا أن ينهار الصادق بلعيد، وهو رئيس اللجنة الاستشارية التي تولت كتابة مشروع الدستور الجديد لتونس بطلب من الرئيس، بعد نشر قيس سعيد نـسخته بالرائد الرسمي بتاريخ 30 . 06 . 2022 وهو الذي كان يؤكد قبل أيام قليلة من هذا التاريخ أنّ مشروع الدستور الجديد لن يتضمن ذكراً للإسلام كدين للدولة. وليس غريبا كذلك، أن يصدم عضو الهيئة الاستشارية لجمهورية جديدة، أستاذ القانون الدستوري، أمين محفوظ، من تلك النـسخة الصادرة بالرائد الرسمي، ونفي أبوته للدّستور المعلن عنه، وهو الذي ما انفكّ يبشّر بدستور جديد يؤسس لدولة بلا دين، دولة القانون.
الصادق بالعيد وأمين محفوظ هما اللذان كانا يمنيان النفس، معا، بأن يكون لهما “شرف” الإعلان عن الفصل الدستوري، النهائي، للبلاد التونسية عن دين الإسلام.
وليس غريبا، مرة أخرى، بأن تتناقل “الألسن الخبيثة” أن مسودة الدستور الجديد التي سلمها رئيس الهيئة الوطنية الاستشارية الصادق بلعيد يوم 20 جوان 2022 لرئيس الجمهورية قيس سعيد والتي نشرها بجريدة الصباح “صاغتها مجموعة سرية وغير معلومة ولم يصغها المشاركون في الحوار الوطني الذي التأم في دار الضيافة بقرطاج. فهل الأيام المعدودة التي أقّتها سعيّد، للمشاركين في الحوار الوطني كافية لكتابة دستور جديد؟
نقول:
إن عظائم الأمور لا تعطى للعبيد فيمتهنونها، ولا للموتورين فيعبثون بها.
فالغرب الكافر المستعمر لم يصل غباؤه إلى هذا الحد من السقوط الذي يقبع فيه تلامذته الفاشلين والذين يدفعهم غباؤهم وعدم وعيهم على مكر أسيادهم إلى أن يعلنوا الحرب على أمتهم، بالسعي إلى هدم مقوماتها، والعمل على طمس شخصيتها، بالطعن في وجهة نظرها، والسعي لإخضاعها إلى فكره وثقافته، ودفعها إلى إعلان الاستسلام أمامه والخضوع لسطوته، ظنا منهم أن الحياة استتبت لأسيادهم، وأنهم في حماه آمنين. فقد غلفت قلوبهم عن قوله سبحانه وتعالى: “وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ”، وقوله جل وعلا: “وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ” وقوله تبارك وتعالى: “وَٱسۡتَكۡبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ إِلَيۡنَا لَا يُرۡجَعُونَ” (39).
فهذا الغرب يدرك تمام الإدراك أنه يصارع أمة تحمل مبدأ، هو الإسلام المبدأ الحق وهو الوحيد المستجيب لفطرة الإنسان، المبنية عقيدته على العقل. وهو يدرك عمق إيمان حملة هذا المبدأ، وأنه يحتل رأس سلم القيم لديهم، وأن دونه الرقاب. وهذا الغرب يدرك أيضا أن مبدأ الإسلام هو نظام الحياة الوحيد القادر على حطّ مبدإ الضلال الذي ساد الأرض وأرهق البشرية عن عرشه، وافتكاك المبادرة منه وإنقاذ الإنسانية من شروره، فهو “أعقل” أو “أعجز” من أن يصادم أمّة الإسلام بطريقة فجّة مكشوفة، فاعتمد سياسة التضليل والخداع منهجا في مراودة الأمة عن نفسها، واتخذ من المضبوعين بفكره وثقافته، المنبهرين بحضارته، ومن الخونة من أبناء الأمة، معول الهدم الرئيسية، بعد أن مكن لهم بيننا بالحديد والنار، وحال دون المخلصين لدينهم وأمتهم، الواعين على مكر الكافر المستعمر من أن يكون لهم صوت بين أهلهم.
فصبر الغرب مع الأمة لم ينفد رغم مرور أكثر من قرنين وهو يباشر عملية الهدم في جسم الأمة، بالعمل على الاستنقاص من رابطها الروحي، وتعميق تخلفها المادي، وتثبيت تأخرها الفكري، وتجذير انحطاطها السياسي، وتوهين روابط الأخوة الإسلامية لديها.
فتحت، ما يمكن أن نسميه بالمادة الأولى “هذا وأحكام مجلس الشريعة أعزّها الله جاريّة مطاعة والله يديم العمل بها إلى قيام الساعة” وإثر ما ورد بالديباجة “وقبل هذا كاتبنا علماء الملّة الأركان وبعض الأعيان بعزمنا على ترتيب مجالس ذات أركان للنّظر في أحوال الجنايات من نوع الإنسان والمتاجر التي بها ثروة البلدان وشرّعنا في فصوله السياسيّة بما لا يصدم إنّ شاء الله القواعد الشرعيّة”، الوارد في نص عهد الأمان، وثمرته دستور 1861م، كانت المحطة الأولى لتدخل الكافر المستعمر على طريق هدم البناء وتقويض الأسس. لتتبعها الأوامر المملاة على حكام أسلموا رقابهم، وبطانة منافقة تقتات على موائد الخيانة والذل، تحت عنوان “الشريعة مطاعة والعمل بها إلى قيام الساعة” وبمباركة “علماء الملّة الأركان وبعض الأعيان” كانت المادة الثالثة فيه مثلا: “التسوية بين المسلم وغيره من سكّان الإيالة في استحقاق الإنصاف لأنّ إستحقاقه لذلك بوصف الإنسانيّة لا بغيره من الأوصاف والعدل في الأرض هو الميزان المستوي يؤخذ به للمحقّ من المبطل وللضعيف من القويّ.” فلم يعد الإسلام هو أساس الإنصاف، ولا هو الميزان المستوي يؤخذ به للمحقّ من المبطل وللضعيف من القويّ.
ولأن من مخرجات عهد الأمان ودستوره، الاحتلال المباشر، كانت المحطة الثانية في عملية التحطيم والتحكم، دستور 1959، الذي أجهض تطلع أهل تونس وعلماؤها إلى استعادة الاحتكام إلى أحكام عقيدتهم بعد ما أُوهموا أنهم تخلصوا من المستعمر واستقلوا في قرارهم عنه، بتضليلهم بما أوردته القوى المهيمنة وعميلهم في المادة الأولى، من أن دين الدولة هو الإسلام، ليفتح تحت عنوانها باب التشريع من دون الله، ونقض عرى الإسلام عروة عروة. فألغي حكم تعدد الزوجات مثلا، والله سبحانه تعالى يقول: “فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ” وكذلك أباح التبني، والمولى عز وجل يقول: “ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا” وغيرها مما قدر عليه بورقيبة يومها وأبقى ما يمكن أن يستفز الناس لمن سيأتي بعده.
ثم حلت بالناس مرحلة الجبروت والطغيان في عهد المخلوع، الذي أدخل على دستورهم تحويرات تعلقت خاصة بالأحوال الشخصية كاللباس الشرعي بالنسبة للمرأة المسلمة. لتكون مرحلة ما بعد الثورة مجالا مفتوحا لكل ناعق لجعل الأحكام الشرعية موضوع أخذ ورد، وأصبح الحكم الشرعي الواحد رأيا من الآراء، لا أمرا واجب الاتباع، يجوز التجريح فيه والدعوة إلى إنكاره والإنكار على من يدعو إلى أحكام الله سبحانه. وغدت الدعوة إلى إقامة دولة الإسلام في بلاد المسلمين تهمة، وجريرة يؤاخذ بها صاحبها. ولما استعصى على الكافر المستعمر ترويض الناس وأصبحت سلطة عملائه في مهب الريح واستحكمت بوادر استعار شرر الثورة من جديد سارعت القوى المهيمنة إلى الالتفاف من جديد على إرادة الناس ففتحت أمام قيس سعيد الباب مشرعا وهو الذي حمل على عاتقه “تطهير” النظام الديمقراطي من الشوائب التي “تعيق” نجاحه، فكانت الدعوة إلى دستور جديد يعبر عن “إرادة الشعب” لإيجاد الشعور لديهم بأنّهم يعيشون لحظة فارقة في حياتهم وأنّهم سيكتبون بهذا الدستور معا صفحة جديدة في تاريخهم، وأنهم قد حققوا أهداف ثورهم فآن أوان الخضوع لمن يتكلم باسمهم في نظام رئاسي علماني ديمقراطي ليبرالي، ينظمه دستور المحطة الأخيرة، مرحلة قيس سعيد، التي مرت قاطرته من: “هذا وأحكام مجلس الشريعة أعزّها الله جاريّة مطاعة والله يديم العمل بها إلى قيام الساعة” في منطلقها مع عهد الأمان، إلى “وعلى الدولة وحدها أن تعمل في ظل نظام ديمقراطي على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف”، وبهذا لم تعد أحكام الشريعة مطاعة، لتكون العلوية للنظام الديمقراطي، أي التشريع البشري، ولذلك “لا توضع قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور إلا بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطي”.
فالغرب الكافر المستعمر لازال صبره يطول على الأمة فلا يضيره أن يُصدم له عميل، أو يخيب ظن بعضهم، أو أن تصيبه سكتة دماغية فهو لن يضع مصيره بين أيدي الأغبياء الخونة لأمتهم. إلا أن الأمة أدركت موضع الغباء منه، وهي ليست غافلة عنه. يقول العزيز الجبار في محكم التنزيل: “وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُون”.

CATEGORIES
Share This