صراع الاستعمار على شمال أفريقيا والسّاحل الأفريقيّ
عبد الرؤوف العامري
نبهت الأحداث التي هزّت أفريقيا، أخيرا، بل والعالم كله، حتى كادت تغطي على حرب الغرب على روسيا في أوكرانيا، وخاصة انقلاب النيجر الذي وقع يوم 2023/07/26، نبهت العقول، وفتّحت الأبصار على منطقة عظيمة من بلاد المسلمين، طالما ألقى عليها الاستعمار الأوروبي رداء النسيان. هي منطقة الساحل الأفريقي التي حملت اسمها العربي، “الساحل”، ولزمها اسمها هذا، منذ أن اعتنق أهل هذه البلاد الدين الإسلامي وترسّخت فيهم حضارته
وهي الإقليم الواقع على الساحل الجنوبي للصحراء الكبرى، والممتد من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي، والذي يعُمُّ البلدان التالية: السودان، وتشاد، ومالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وموريتانيا. ظلت المنطقة في فكر الاستعمار الغربي، من ضمن الساحة الخاصة بالنفوذ الفرنسي منذ أواخر القرن التاسع عشر. إلا أن وصول آفة الإرهاب، التي ابتدعتها أمريكا للتغطية على حربها على الإسلام، من الشرق إلى شمال أفريقيا والصحراء والساحل الأفريقي، جعل فرنسا تقف على حقيقة الخطر الذي بات يتهدد نفوذها في هذه المنطقة، فبادرت إلى إنشاء هيكل سياسي تحت مسمى مجموعة دول الساحل الخمس “جي 5” (تشاد، ومالي، بوركينا فاسو، والنيجر، وموريتانيا)، أي عدا السودان، وذلك في 16 شباط/فبراير 2014 في نواكشوط، تحت إشرافها المباشر بذريعة الربط بين التنمية الاقتصادية والأمن، ومحاربة تهديد التنظيمات الجهادية العاملة في المنطقة. إلا أن فشل عملية برخان التي أطلقتها في آب/أغسطس 2014، والتي أرادتها أن تكون الركيزة الفرنسية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، جعلها تستثمر في “رصيد أمريكا التجاري الحصري”، وهو الأمر الذي فتح الباب واسعا أمام الولايات المتحدة لمنازعة فرنسا في أهم مناطق نفوذها، وأكثرها حيوية، وذلك حين أعلن وزير الدفاع الأمريكي، في تشرين الأول/أكتوبر 2018، عن مساعدات ضخمة للقوة المشتركة من دول الساحل الخمس، بعد أن كانت بريطانيا هي التي تزاحمها على هذه المنطقة، عبر عميلها القذافي
وباكتمال ضلع مثلث الانقلابات في منطقة الساحل الأفريقي، بانقلاب النيجر الذي جرى يوم 26 تموز/يوليو 2023، بعد انقلابي مالي وبوركينا فاسو، ناهيك عن المحاولات الانقلابية التي حدثت في أكثر من دولة أفريقية أخرى خلال الأعوام الماضية، انكشفت عملية كسر العظام التي باتت لا تخفيه أمريكا، لمجمل الاستعمار الأوروبي من أواخر معاقله، أفريقيا، وخاصة فرنسا التي باتت تخسر مواقعها، كتتابع سقوط أحجار الدومينو، بكنسها من مجالها الاستراتيجي وما يزخر به من ثروات هائلة، لا سيما فيما يخص المواد الأولية والمعادن، عصب الاقتصاد الفرنسي، وركن رفاه شعبها. ومع هذه الحقائق الساطعة من حيث تنازع قوى الكفر الاستعمارية على النفوذ في هذا الجزء الكريم من بلاد الإسلام، وإحكام قبضتها على مقدراتنا، فإننا لا زلنا نلدغ من الجحر نفسه، إذ لا زالت شعوبنا تعلن الفرح وتقيم المهرجانات احتفاء بإسقاط خائن، دون أن تدرك أنها استبدلت بخائن خائنا آخر لا يقلّ عن سابقه وحشيّة وإجراما، حتى يحين موعد آخر لاحتفال زائف بسقوط عميل آخر. ولعل أخطر ما في الأمر قدرة أمريكا، الواقفة وراء جميع أحداث التغيير في المنطقة، الدفع باسم روسيا إلى الواجهة، وحملها المتظاهرين المبتهجين بما يجري بين أعينهم، على رفع أعلام روسيا أمام السفارة والثكنة الفرنسية في عملية تضليلية ماكرة، تضليلا للرأي العام عن الحقائق، حتى لا يتركز الوعي الصادق لدى الأمة، وحتى تغفل عن عدوها الحقيقي. فروسيا منذ الحقبة السوفييتية لا شأن لها بالمنطقة وقضاياها، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لم يعد لها القوة الفكرية ولا الطاقة المادية، ولا الذكاء السياسي ليكون لها شأن فيها
ولئن كانت الانقلابات هي أداة الصراع الأساسية، على النفوذ بين القوى الاستعمارية في أفريقيا، وفي منطقة الساحل خصوصا، وبين فرنسا وأمريكا تحديدا، فإن الشمال الأفريقي وإن كان في منجى من حمى الانقلابات، فإنه في قلب التنافس على النفوذ والسيطرة بين القوى الاستعمارية، وإن بدأ يأخذ شكل الصراع الجدي، لأنها منطقة خطرة، والتحرك فيها حذر جدا، فالانقلابات العسكرية لا تحتملها الأوضاع هناك، خاصة وأننا نعلم أن الولاء في كامل ربوع الشمال الأفريقي كان لبريطانيا بحكم التوافقات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، مع وجود فرنسي غير خاف
هو الصراع الذي أصبح بارزا للعيان، إثر انفجار أحداث الثورات في كثير من البلاد العربية، وبسقوط نظام القذافي، وجدت أمريكا الباب مشرعا، لترسم استراتيجية كنس النفوذ البريطاني من كامل الشمال الأفريقي، خاصة وأنها وجدت في عميلها حفتر الذي ربته على عينها لأكثر من عقدين، تضرب به أهلنا في ليبيا، وخصومها من عملاء بريطانيا وفرنسا، مستعينة بنظام عميلها السيسي، حتى صارت اليوم اللاعب الأبرز في ليبيا، وللعون الذي تقدمه لها تركيا التي تلعب دور الضامن لسلطة الغرب الليبي (طرابلس) بإقصاء السراج. حتى إنه لم يبق الكثير لأمريكا لتحكم قبضتها على ليبيا، أمام التسليم بالواقع من النظم في تونس والجزائر والمغرب. وبإقصاء سعيد، الذي انحاز لفرنسا منذ انتخابه رئيسا لتونس، لرجال بريطانيا وإشغالهم بدواخلهم، وبإحكام أمريكا القبضة على صنبور صندوق النقد الدولي، لمنع القروض عن موازنة سلطة قيس سعيد، لحملها على الاستجابة للضغوط الأمريكية، وبحمل تونس، كالمغرب، على أن تكونا “الشريك الرئيسي من خارج الحلف الأطلسي”، وبإطباق الولايات المتحدة على الساحل الأفريقي اكتمل الطوق حول الجزائر التي تمثل، مع محيطها الشمال الأفريقي، مصدر خوف لقوى الهيمنة الاستعمارية، لوجوده على أبواب أوروبا، وما يحمله من خطر التغيير على أساس الإسلام، نظرا لحيوية أهله المسلمين، واتساع جغرافيته، وعظم ثرواته. خاصة وأن أمريكا تجهد نفسها أن تستثمر في مسألة الصحراء الغربية لعلها تجد منفذا للإيقاع بين النظامين في المغرب والجزائر لتثبت قدمها في منطقة الشمال الأفريقي. فتكون أمريكا قد قاربت على تجفيف منابع الطاقة عن أوروبا بعد أن أحكمت الإشراف على شرايين نقلها من كل من روسيا وآسيا، بعد أن تكون قد أحكمت قبضتها عليها في منابعها الأفريقية، وليكون لها نصيب في نقطة انطلاقها نحو أوروبا، من خلال موانئ الشمال الأفريقي تونس والجزائر والمغرب
وما زيارة نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية يوم 6 سبتمبر الحالي، إلى المغرب، والاتصال الهاتفي بين سعيد شنقريحة رئيس أركان الجيش الجزائري مع مدير الوكالة المركزية للاستخبارات الأمريكية ويليام بيرنز حول التنسيق الأمني، ومكافحة الإرهاب، إلا فاصلا في هذا الصراع
وستظل منطقتنا الإسلامية جنوب الصحراء وشمالها وقودا للصراعات الاستعمارية ومطمعا لجشعها ونهمها، طالما بقيت هذه النظم الوظيفية جاثمة على رقابنا، رغم ما تمتلكه من عوامل الوحدة والتوحيد، من حيث اتحاد العقيدة، والعمق والاتصال الجغرافي، والحجم الخرافي للثروة، والقوة البشرية الفتية، حتى يأذن الله بالفرج فيكرمنا بدولة العزّ دولة الخلافة على منهاج النبوة، فتكنس الوجود الاستعماري عن ديارنا، وتمسح لوثة العار عن وجوهنا، وتستعيد المبادرة من الغرب الكافر في إدارة شؤون الحياة.
﴾وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴿