كم دبابة لدى سامي عنان؟

كم دبابة لدى سامي عنان؟

نشر موقع “مدونات الجزيرة” يوم الثلاثاء 24/1/2018 مقالا بعنوان “كم دبابة لدى سامي عنان”, للباحث في التاريخ والحضارة و الاستاذ “محمد إلهامي”, ونظرا لما تميّز به المقال من دقّة وإلمام بكلّ وما يجب قوله في مسألة الحكم والحكام وعلاقتهم بالأمة وبأعدائها وجدنا أنه لا بدّ من اعادة نشره لكي يصل لمن لم يحيطو علما بما كان وسيكون وما يجب أن يكون في حركة الأمة ومريدي نهضتها, وهذا طبعا بعد شكر صاحب المقال على ما قدّمه للناس من كلمات تُخطّ بماء الذهب وعيا وفطنة ووقوفا على قول الحق, كما من واجبنا الثناء على موقع مدونات الجزيرة على اتاحة الفرصة له لنشره.

المقال:

جاء بيان قيادة العسكر المصري ثم اعتقال سامي عنان ليقطع عليَّ كثيرا مما كانت أودُّ قوله، أو يوضحه ويؤكده. وخلاصته ببساطة: أن معركة الحكم في مصر لا تحسم عبر الصناديق، وأن نزول عنان إلى انتخابات الرئاسة يشير بطبيعة الحال لحصوله على بعض الدعم الخارجي واستناده لأجنحة في جهاز الدولة العسكرية والأمنية بالمقام الأول. وأن المعركة الحقيقة ستدور في الأروقة والدهاليز بينما ستكون الانتخابات مجرد غطاء وزخرف لا قيمة له؛ فأصوات الناخبين هي الأقل أهمية من بين كل أوراق القوة في هذه المعركة.

سيكون من السذاجة أن يعتبر عنان أو أي مرشح آخر أن المعركة ضد السيسي هي معركة قانونية انتخابية، لا طبيعة العسكر ولا طبيعة السيسي تسمح بهذا، فالحاكم إما في القصر أو في القبر. ومن يريد خوض معركة حقيقية ضد السيسي فسيعمل على إرساله للقبر باعتبارها الوسيلة الوحيدة الممكنة.

الحمد لله، السيسي نفسه وفَّرَ علينا عناء إثبات هذا الكلام كله، ووضع سامي عنان في السجن.. ترى هل انتهت المعركة أم بدأت؟ لا أحد يدري على وجه الحقيقة.. فالصراع العميق بين أجنحة السلطة في الداخل وحلفاء الرجلين في الخارج لا تظهر لنا سوى آثاره. وهذا مشهد من مشاهد غياب الأمة عن الصراعات التي تحدد مصيرها، وهي المشاهد التي تثبت أن بلادنا تحت الاحتلال الأجنبي حقيقة.

أمريكا تختار من يستطيع أن يقدم أفضل أداء! أن يكون سمعها وبصرها ويدها ورجلها بالبلد، مع قدرته على ضبط الشعب واحتوائه بالرغبة أو بالرهبة، وحينما يسوء الأداء يمكن التفكير باستبداله

المثير للدهشة والحسرة أننا عند كل مفصل نحتاج لإثبات أشياء هي من البديهيات، وما ذلك إلا لأن الخطاب السائد الذي هو نتيجة لعلاقات القوة يُصِرُّ على تمثيل مسرحية أن بلادنا بلاد مستقلة وليست محتلة وأن حكامها وطنيون وليسوا عملاء، وهو الخطاب الذي تردده وسائل إعلام تستقدم من يفترض أنهم محللون سياسيون وصحافيون وخبراء ليؤدي كل منهم دوره في المسرحية، بعضهم يعلم أنه يمثل ويقبض أجره وبعضهم اندمج في الدور حتى أنه يقبض أجره وهو يظن أنه يؤدي رسالة!

وطالما استمرت المسرحية واستمر الخطاب المضلل باستمرار القوى المهيمنة التي تنتجه، استمرت محاولاتنا للتصحيح والمقاومة. تلك هي وسيلة الدفاع عن الناس قبل أن يتشربوا الخرافات ويصيروا عبيدا مخلصين لموقعهم من العبودية. إن الطغيان يستطيع السيطرة على البشر بخطاب الخرافات والأوهام، ولقد عبد الناس الأصنام وظنوا أنها تنفع وتضر حتى كانت معركة الأنبياء عسيرة وهم يحاولون انتزاع هذه الخرافات من عقول الناس، وبقدر ما كانت معركتهم مع الملأ (الحكام) الذين صنعوا الخرافات لتحمي مصالحهم ومكاسبهم وتُمَكِّنهم من استعباد الناس، بقدر ما كانت معركتهم أيضا مع أولئك العبيد الذين شربوا الخرافات واستعذبوها وتشبعوا بها حتى صاروا يحسبون الخروج من العبودية تهديدا عظيما كأنه هدم لقوانين الكون وسنة الحياة!! (راجع: زمن الجاهلية الجميل).

هل يملك الضعيف قراره؟

سؤال بديهي وإجابته بديهية، الضعيف مفعول به لا يملك لنفسه إلا ما يسمح له به الأقوياء من حوله، إن شاءوا سحقوه وإن شاءوا استبقوه. فإذا اتفقنا على أن مصر في وضعها الحالي دولة ضعيفة اتفقنا في اللحظة نفسها على أنها في خانة المفعول به وفي خانة التابع، وأنها لا تملك قرارها، بل قرارها مرهون بمن تتبعه.

عند هذه النقطة تنحل نصف المشكلات، ومنها مشكلتنا التي نتناولها في هذا المقال: من شاء أن يحكم في مصر فلا بد له من الحصول على الرضا الأمريكي والموافقة الإسرائيلية (هكذا قال مصطفى الفقي بنفسه في أواخر عصر مبارك، قالها ببساطة وبدهية ووضوح، تبدو كجملة خارج نص المسرحية الكبرى لكنها لا تجاوز الحقيقة للحظة عند سائر المتابعين). ولهذا يهرع جميع المتصارعين في مصر للراعي الأمريكي ليفصل بينهم!

وأمريكا تختار من بينهم من يستطيع أن يقدم أفضل أداء! أن يكون سمعها وبصرها ويدها ورجلها في البلد، مع قدرته على ضبط الشعب واحتوائه بالرغبة أو بالرهبة، وحينما يسوء الأداء يمكن التفكير في استبدال غيره به.

فما بال الديمقراطية؟!

الديمقراطية يا صديقي هي عنصر المسرحية الأهم، وإذا رجعت بذاكرتك قليلا إلى الوراء لرأيت الإنجليز، الذين هم آباء الأمريكان وسلفهم في تمثيل الحضارة الغربية، يحتلون مصر بالجيوش والدبابات ويجلس مندوبهم في قصر الدوبارة، ومع ذلك يسمحون بحياة ديمقراطية وأحزاب وبرلمانات ودستور وصحافة شبه حرة.. حتى ليخيل إليك أن الديمقراطية تعيش أزهى عصورها في مصر الإنجليزية! فإذا جَدَّ الجدّ حُلَّتْ الحكومة والبرلمان وحوصر قصر الملك وأوقفت الصحف ونهب الإنجليز كل ما يحتاجونه من مصر في المجهود الحربي (حتى الحمير والبغال) لخوض الحرب العالمية الأولى أو الثانية.

الديمقراطية هي العنصر الذي تغلف به عملية صناعة القرار لتبدو محلية وطبيعية وشرعية، فالحضارة الغربية مغرمة للغاية بصناعات التغليف والتعبئة، ولا يصح أن تخرج عملية الاحتلال ونهب الشعوب دون غلاف مناسب يجعلها زاهية براقة!

صراع السيسي مع عنان أو مع غيره صراعٌ لن تحسمه أصوات الناس، ومن أراد أن يدخل فيه لترجيح كفة عنان فليدخل شرط أن يملك أصلا القدرة على الترجيح

الديمقراطية لو أنها حقيقة تحكم المجتمعات الغربية (وفي هذا شك كبير ليس هنا مقام النقاش فيه) فهي أبعد من أن يحصل عليها ضعيف تابع! البلاد التي حصلت على الديمقراطية حصلت عليها بعد التحرر، بعد أن امتلكت قرارها، بعد أن صارت مستقلة لا تعاني من الهيمنة الأجنبية.. هنا ربما تكون الديمقراطية حقيقية! أما غير ذلك فالديمقراطية ليست إلا وَهْمًا وزخرفا وطلاء لأبشع عمليات ذبح الشعوب ونهب خيراتها وشرب دمائها. وأمامك مرسي في سجنه ومرضه أبلغ دليل على مصير الديمقراطية! 

فما الحل؟!

الحل في التحرر.. الاستقلال.. الخروج من الهيمنة.. امتلاك القرار! حل بسيط بديهي واضح، مشكلته الوحيدة أنه مكلف، دونه بحور من الدماء والدموع وأمواج من الأرواح والأموال وجبال من الجماجم والأشلاء.. تلك المرحلة التي عبرت بها كل الأمم التي نالت استقلالها، إن أوروبا وأمريكا التي تتمتع شعوبها الآن بما هي فيه وتعيش من أموالنا ومواردنا إنما وصلت لكل هذا بما دفعته من أرواح وضحايا لتحصل على الاستقلال ثم بما دفعته من أرواح وضحايا لتصل إلى هذا العلو في الأرض.

قاعدة كالشمس تجري في التاريخ ولا معقب لها، صاغها شوقي بقوله:

ولا يبني الممالك كالضحايا .. ولا يُدني الحقوق ولا يُحِقُّ

ففي القتلى لأجيال حياة .. وفي الأسرى فدىً لهمُ وعتق

وللحرية الحمراء بابٌ .. بكل يد مضرجة يُدَقُّ

لا بد أن يكون لديك ما يجبر عدوك على أن يصالحك أو يفاوضك أو يصل معك إلى حل وسط أو حتى يمنحك الحد الأدنى من الحل! أما الفراغ وخلو اليد من كل قوة ومن كل قدرة فهذا حال المهزوم

إن الذين استمتعوا ببلادنا لقرنين من الزمان لن يتركوها احتراما للديمقراطية، كما أنهم حين جاءوا واحتلونا لم يدخلوا إلينا بالدعوة ونشر الفكرة وتأسيس الأحزاب ودخول البرلمانات ثم فازوا في انتخابات ديمقراطية.. أبدا! بل دخلوا بالجيوش والدبابات، فلما هزمونا وقهرونا واستقروا في بلادنا أنشأوا أنظمة حكم على مثالهم وصنعوا نخبهم وأحزابهم وإعلامهم، ونشروا أفكارهم وحرسوا كل هذا بسلاحهم ولا زالوا، وقواعدهم العسكرية في بلادنا تشهد على كل هذا. (راجع: طبقات الاستبداد ومقاومة الأمة).

فإن كنت في شك مما أقول فاسأل سوريا تشهد: كيف أن قتل الملايين وتشريد عشرات الملايين ومسح البلد كلها ثمن ترضاه أمريكا لأنها لم تجد البديل المناسب لها بعد بشار، فلتستمر المعركة حتى نجد البديل المناسب أو يهلك الشعب دون ذلك! (راجع: في مكافحة الوهم اللذيذ).

وإن من طبائع الهزيمة أن يفرَّ بعضنا من هذه الحقيقة لأن مواجهتها والتفكير فيها يؤدي مباشرة للقيام بواجب الإعداد، الإعداد للثورة والمقاومة والجهاد، حيث السبيل الوحيد للتحرر والاستقلال.. وذلك أمر يضرب توازنات الكُتَّاب والمفكرين والعلماء والنخب والأحزاب والكيانات وكافة المستفيدين ببقاء الوضع على ما هو عليه، مثالهم كما قال الشاعر القديم:

 

أقول وقد هبوا إلى الحرب غارة .. دعوني، فإني آكل العيش بالجبن

والخلاصة:

صراع السيسي مع عنان أو مع غيره صراعٌ لن تحسمه أصوات الناس، ومن أراد أن يدخل فيه لترجيح كفة عنان فليدخل شرط أن يملك أصلا القدرة على الترجيح، أما أن يضحك على نفسه وعلى الناس ويتوهم أنه قادر على الترجيح بمجرد التصويت والحملات الانتخابية فهذا يشارك في المسرحية نفسها، فلئن كان يعلم فهو مجرم، وإن لم يكن يعلم فهو أحمق الناس طرًّا!

فحتى المصالحة، حتى التفاوض، حتى الحلول الوسط، حتى الحد الأدنى من الحلول.. كل حل لا يُمكن التوصل إليه إلا بوجود (القدرة) على الوصول إليه! لا بد أن يكون لديك ما يجبر عدوك على أن يصالحك أو يفاوضك أو يصل معك إلى حل وسط أو حتى يمنحك الحد الأدنى من الحل! أما الفراغ وخلو اليد من كل قوة ومن كل قدرة فهذا حال المهزوم الذي تُملى عليه الشروط. ويوما ما قيل لستالين: البابا غاضب منك. فقال: كم دبابة لدى البابا؟

محمد إلهامي

CATEGORIES
TAGS
Share This