تونس وسياسة العبث إلى متى؟

تونس وسياسة العبث إلى متى؟

دخلت بلادنا السنة الثانية بعد الستين من حقبة وهم يسمى الاستقلال..وهم عمل “بورقيبة” ومن اعتلى بعده سدة الحكم على جعله مكسب للبلاد وأهلها ..والحال أنه لا يتعدى كونه عملية استبدال استعمار مباشر بآخر لا تراه إلا البصائر المستنيرة التي لا يخدعها زخرف القول وكذبه..استقلال كل ما نتج عنه هو انتصاب خاص للمستعمر واستثماره في تفريخ العملاء والخدم في مزارع أحكم تنشئتها ووفق أيما توفيق في إدارتها والسهر على حسن سيرها. لهذا كان منتجاتها ذات جودة عالية كلما تعلق الأمر بمصالح القوى الاستعمارية وفي المقابل كان ما زرعته يد المستعمر في أرضنا وبالا على تونس و أهل تونس كما هو الحال في كافة بلاد المسلمين من شرقها إلى غربها. ومع الأسف لم تتمكن رياح الثورة التي هبت على تونس – إلى حدّ الآن – من قلع زرع الاستعمار من جذوره بسبب الارتعاش الحاد والمزمن في أيادي ظنها الناس أنها ستقطع دابر ذلك النبات الخبيث، فانتخبوها. لكن اتضح في ما بعد أنها لا تختلف في شيء عن تلك الأيادي السابقة الآثمة التي أهلكت حرثنا وأفسدت نسلنا. بل تحولت تلك الأيادي “الثوريّة” زوارق نجاة لإنقاذ الحرس القديم من التلاشي والاضمحلال تحت غطاء (مكشوف) فرية كبرى سموها التوافق، ليكون الجميع في خدمة قوى استعمارية أحست بالخطر يهدد وجودها. فلا صوت يعلو صوت التوافق الذي طمر ركامه كل جراح البلاد الدامية، لتزداد تعفّنا ويشتدّ نزيفها إلى أن خارت قواها تماما. ورؤوس الدّجل السياسي يزعمون أنّهم حلّوا المشكل السياسيّ ولم يبق لهم إلا الأزمة الاقتصاديّة. وهذا تضليل واضح بل فاضح. أليس الاقتصاد سياسة؟ أليس الأزمة نتيجة لسياستهم؟ وسيلستهم منذ بورقيبة وبن علي إلى الآن الاستناد الكلّي إلى الدّوائر الاستعماريّة. فهل سيغيّرونها؟

وثيقة قرطاج مبادرة سياسيّة طرحها رئيس الدّولة لإخراج البلاد من الأزمة، وزعموا أن فيها الخلاص وحسن المآل، وكانت “حكومة الوحدة الوطنية” من أجل تطبيق وثيقة قرطاج ولتنقذ البلاد والعباد. لتشتدّ الأزمة أشهرا قليلة بعد المبادرة وتشكيل الحكومة الجديدة، وليتضح ككل مرة أن ما صنعوه هو كيد مستعمر ينفّذه وكلاؤه بترويج الأكاذيب والأضاليل كي يتسنى له مواصله بسط هيمنته والاستئثار بثرواتنا وخيرتنا ويستمر امتصاص دمائنا بتمهيد وتسهيل من “حكام” شكّلهم في مصانعه وضعوا على بابه يافطة مكتوب عليها استقلال…

نعم لما اشتد على النّاس الكرب وتعاظمت الهموم جراء النظام الديمقراطي المفروض عنوة. حشر كبيرهم ونادى وألقى مبادرته ليتلقفها مريدوا هذا النظام وكهنته. وأجمعوا على أن ما أتاه “الباجي قائد السبسي”هو الطريقة المثلى للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة..وعُزل “الحبيب الصيد” وجئ بموظف السفارة الأمريكية السابق” يوسف الشاهد ونعقوا جميعا بأعلى أصواتهم هذا هو المهدي المنتظر..خاصة بعد عرض الفصل الأول من المسرحية الذي قدمه رئيس الحكومة الجديد على ركح مجلس النواب. حيث تقمص دور رجل الدولة الصريح الشجاع لينتقل لاحقا في تقمص أدوار أخرى لعل أهمها دور رجل الدولة الحازم العادل الذي لا يغمض له جفن حتّى ينصف المظلوم ويقتص من الظالم. وبلغت المسرحية ذروتها لما أطلق “البطل الهمام” حربه الوهمية على الفساد. ليحصد كما هائلا من المديح و الإطراء حتى انتفخ ونفش ريشه وشبه نفسه بالفاروق عمر بن الخطاب. وبما أن كل ما حدث كيد ساحر. وبما أنه لا يفلح الساحر حيث أتى. لم تخرج مبادرة “الباجي قائد السبسي” تلك إلا نباتا نكدا وكل ما تم حصاده، خمط وأثل وسدر قليل. وظلّت مبادرة صاحب الهيبة “سي الباجي” عاجزة عن معالجة أيّ مشكل، بل إنّها زادت المشاكل، وهذا أمر طبيعيّ لأنّ المبادرة سليلة نظامهم الوضعي العاجز على معالجة المشاكل بطبعه.

والحالة تلك كان لزاما على القوم أن يجدوا مخرجا من المأزق الذي وقعوا فيه، فوضع البلاد من سيء إلى أسوء، ولا حلول لديهم لا عاجلة ولا آجلة. فاستدعى ” الباجي قائد السبسي” من تبقى من الموقعين على مهزلة قرطاج ويستنسخوا مهزلة أخرى تمنحهم جرعة “أوكسيجين” في انتظار أن يجدوا دواء يمكن أن يطيل عمر هذا النظام ويمكنهم من البقاء في كراسي الحكم أطول ما يمكن، ليستمروا في خدمة المسؤول الكبير. لقد جمع “السبسي” المخلصين لمبادرته وقرر الممضون على وثيقة قرطاج تكوين لجنة لوضع خارطة طريق للإصلاح الاقتصادي يتم خلالها تحديد طبيعة الأولويات ومن ثمة تحديد طبيعة التحوير الوزاري. (هكذا) هم ينطلقون من نفس المقدّمات ويريدون منّا أن ننتظر نتيجة أخرى.

ألم يقولوا من قبل أن ما حددوه من أولويات هي البلسم الشافي لكل الجراح الاقتصادية والعلل الاجتماعية؟ أم تراهم تشابه عليهم البقر ولم يعودوا مهتدين؟ وحتى لا نظلم القوم ونبخسهم حقوقهم هناك جديد في الموضوع: فهم سيتجاوزون الخطأ المتعلّق بوثيقة قرطاج في نسختها الأولى..هذه المرة هناك ما يحول دون ما عزموا عليه والفشل، فالأمر موكول إلى اللّجان وما أدراك ما اللجان وسيفوض كل طرف في وثيقة قرطاج ممثّلين في لجنة لتقوم بتحديد أولويات الفترة القادمة، ولوضع خارطة طريق لتنفيذ التوصيات. وهل ستأت هذه اللجان بما لم يستطعه الأوائل، هذه اللجان تنتمي إلى أحزاب الحكم وعقيدتها السياسيّة الاعتماد الكلّي على المستعمر، فهل جاؤوا ليغيّروا من سياستهم؟ كلّا فالنّتائج معروفة من مقدّماتها ومن رام نتيجة أخرى فهو واهم بل أحمق والحمق داء لا دواء له. “الإصلاحات الاقتصاديّة” المزعومة من وضع المستعمرين والمشكلة عند الباجي وندائه والغنوشي ونهضته، والطبوبي واتحاده وأتباعهم والسائرين معهم كلّهم يدعو إلى تطبيق تلك “الإصلاحات” والمشكل أنّ الشاهد عجز وحكومته على تنفيذ الأجندة الغربيّة والمطلوب اليوم وزراء قادرون على التنفيذ، أو غطاء وتبرير يجعل كلّ حكومة أو وزارة بعيدة عن مسؤوليّة ما سينفّذ في البلاد (لأنّ الإصلاحات الكبرى المزعومة هي جريمة استعماريّة وخيانة موصوفة) ولا أحد يحبّ أن يتحمّل المسؤوليّة

ولأجل ذلك جُعلت اللجان الخفيّة الاسم ليتفرق دمنا بين القبائل: الأحزاب والمنظمات وتهدر كل حقوق البلاد وحينها لن نجد مسؤولا نحاسبه عن موت طفل لسوء التغذية أو ينتحر لقلّة الرعاية أو من يعيش لسنوات في الكهوف والمغارت بين الموت والحياة

هكذا هي الديمقراطيّة نظام اللجان خفيّة الاسم تعبث بمصائرنا..ليتواصل الضياع في متاهة سياسة العبث.

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This