الدولة الوطنية تدمر أوثانها… هل فقد التعليم عندكم قداسته ؟

الدولة الوطنية تدمر أوثانها… هل فقد التعليم عندكم قداسته ؟

لم تكد تمر بضع عقود على انتصاب وهيمنة الدولة الوطنية على رقاب الناس بقوة حديد ونار المستعمر وبأساليب التضليل الملتوية التي اتبعها المضبوعون بالثقافة والحضارة الغربية من سياسيين ومثقفين يدعمها الضعف الفكري والسياسي الذي أصاب المسلمين، وبعد أن أزيح النظام السياسي المنبثق عن عقيدة الإسلام والذي نظم حياتهم لقرون طويلة كانوا هم سادة الدنيا وقادة الحياة فيها، بدأت تظهر للأعين المجردة عوامل الوهن بل والإنحلال على مفهوم الدولة الوطنية وجفّ معينها حتى ليكاد يتوقف دولابها عن الدوران وأصبحت مفاخرها دلائل ضعفها وانحطاطها.

فالتعليم و” انتشاره ” في تونس الوطنية، مثلا، أو المرأة و “تحريرها ”  قد فرضت كأيقونة ” لدولة الحداثة ” وأصبحت مثل هذه المواضيع، البضاعة التي يتاجر بها النظام في تونس في المحافل الدولية ويتيه فخرا على أقرانه في التبعية من النظم العربية كونه أكثر حداثة منهم وأنه أقرب شبها بالمثال الغربي ” تطورا و تقدما “، ولا يجد غضاضة في التبجّح كونه تحرر من كل ما له علاقة بمبدأ الأمة ونظرته للحياة وكيفية تنظيمه للحياة.

سلطة تمنّ على الشعب ببضاعة الغرب

إلّا أن هذا الوجه المشرق لبضاعة التعليم التي ما فتئ النظام في تونس يزايد بها ويمن على الناس أنه أخرجهم من الجهل وعلى معارضيه بمختلف مشاربهم السياسية أنهم يعرقلون رسالته في تحديث المجتمع ويعطلون عجلة تقدمه بالناس سرعان ما سوّدته حقائق دامغة كأعداد التلاميذ والطلبة المنقطعين عن الدراسة كل سنة، أو المستويات العلمية المتدنية للمتخرجين من مختلف الإختصاصات حتى بدأ يتسرب الشك إلى مصداقية الشهائد العلمية، أو المراكز المتأخرة جدا للجامعات التونسية أمام نظيراتها العالمية حتى أننا لا نكاد نجد جامعة تونسية واحدة بين الستة آلاف جامعة الأولى ترتيبا على المستوى العالمي. أما على مستوى البنى التحتية والتجهيزات الضرورية فلا تكاد تخلو مؤسسة تعليمية، مدرسة إبتدائية كانت، أو معهدا ثانويا، أو كلية عليا، إلا وقد أصابتها عوامل التهرية والتآكل أمام عجز السلطة على صيانتها أوتعويض المتلف منها، واسألوا أساتذة المواد العلمية عن تجهيزات المخابر العلمية في المعاهد الثانوية وكليات العلوم وعن الظروف التي يؤدون فيها رسالتهم.

إدخال التعليم ورجالاته في معادلة المساومة على البقاء في الحكم

أما أدق مظهر لانهيار مقولة قدسية التعليم عند نظام الوطنية هذا، بعد الفشل الفظيع في المحاولات المتكررة لإصلاح التعليم، فهي المكانة التي أصبح يحتلها رجل التعليم في تونس اليوم، في التعليم الأساسي أو الثانوي أو العالي، حتى غدا الفرد منهم غير قادر على توفير حاجاته الأساسية دون الحديث عن قدرته على توفير سكن لائق، أو مستوى عيش كريم علاوة على تدهور علاقة المربي بالتلميذ الذي يربيه أو مع وليّه، والأخطر في كل ذلك لجوء السلطة إلى توظيف هؤلاء الأولياء في الصراع مع نقابات التعليم في محاولاتها التصدي للإضراب المتواصل الذي أعلنته نقابتا التعليم الثانوي والعالي إلى حين تفعيل مختلف الاتفاقيات المبرمة مع وزارتي النظر وذلك لوقوعها تحت سطوة المؤسسات المالية الغربية التي فرضت عليها ضمن إصلاحاتها، الحد من الإنفاق العام بعد أن تخلت عن قرارها لفائدة هذه الجهات الإستعمارية ورهنت ماليتها بقرارها ورضاها، واستعاضت بخضوعها هذا عن ماهية الشخصية المبدئية التي من المفروض أن تشكلها مناهج تعليم منبثقة من عقيدة الأمة ورسالتها في الحياة إلى مناهج فرضتها المؤسسات والقوى الإستعمارية حتى لم يعد لرجل التعليم في بلادنا، تلك الأهمية وذلك الإعتبار الذي توليه الدول التي تحترم نفسها لقطاع التعليم ورجاله، فلم تر في معالجة أوضاع التعليم على مختلف المستويات أولوية لها ومنها المطالب المادية لرجال التعليم باعتبارها أقل أهمية أمام الوضع العام للبلاد وقبلت أن تتخذ من الموقف الذي تبنّته نقابات الثانوي والعالي بإضرابها المفتوح أداة مساومة خطيرة لإرضاء المؤسسات المهيمنة بإبقاء هذا الملف دون حل حتى يقع القبول ببيع مؤسسات ربحية عامة، تحت قصف إعلامي رخيص، كوكالة التبغ والوقيد، ومعمل الفولاذ، وتونس الجوية وبعض البنوك التابعة للدولة.

بعد التعليم: بداية الترويج لفكرة التفريط في القطاع الفلاحي

ومن المؤشرات الخطيرة التي بدأت تتسرب عن فداحة الوضع الذي جرت إليه سلطة البلاد بسياسات التبعية إلى الأعداء التي انتهجتها منذ أن وضعت على رقاب الناس هو بداية الحديث عن التفريط في القطاع الفلاحي للمستثمر الأجنبي، من ذلك الحديث عن التفريط في هنشير الشعال وهنشير بوزويته بصفاقس أو ما صرح به السبسي في إحدى خطبه عن أن بعض المستثمرين الأجانب عدلوا عن الإستثمار في بلادنا والذين كانوا وعدوا بتوفير أكثر من خمسين ألف موطن عمل فلاحي بجهة قفصة، وهي الوضعية التي تحيلنا رأسا إلى الكومسيون المالي وهنشير النفيضة الذي قدم لفرنسا كمعالجة لمسألة الديون التي أغرقت بها البلاد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والذي كانت من نتائجه الإستعمار المباشر لبلادنا.
فهل أن التعليم فقد عندكم قداسته حتى غدت برامجه ورجاله موضع مساومة في معادلة البقاء في الحكم؟ أم هل أن الدولة الوطنية نفسها قد استنفدت طاقتها وقدرتها على الحياة فاتخذتم من البلاد منبتا لتجربة ما سماه لكم المهيمن الغربي تجربة “الحكم المحلي” فكان التعليم ورجالاته بعض ثمنه؟

عبد الرؤوف العامري

CATEGORIES
TAGS
Share This