التهريج السياسي في تونس, قد بلغ السيل الزبى
الفشل, العجز, والضعف.. كلها كلمات لم تعد تعبر عن واقع الساسة في تونس اليوم, حكاما كانوا أو أحزابا لها تمثيل في مجلس نواب الشعب أو دكاكينها لا صلة لها بقصر باردو.. والشيء نفسه ينطبق على كل المنظمات كإتحاد الشغل, ومنظمة الأعراف, وما لف لفها من منظمات.. وما يسمى بالمجتمع المدني, وكل إفرازات النظام الديمقراطي الحداثي.
فالفشل كلمة أضحت أكبر من كل تلك المكونات, والعجز كلمة باتت من باب الإطراء, والإشادة بسياسة دولة الحداثة.. فهم دون مرتبة العاجز بكثير, ولم يرتقوا لمصاف الفاشلين. إنهم دون أي تصنيف مهما تدنى ولامس الحضيض. وما يحصل اليوم من شدّ وجذب حول التحوير الحكومي, وتحديدا حول تنحي رئيس الحكومة الحالي – في الحقيقة رئيس وزراء ليس إلا- يوسف الشاهد عينة مما ذكرنا… في البداية لما جاؤوا به أقسموا جهد أيمانهم بأنه وجوقته المسماة ب” حكومة الوحدة الوطنية” هي الأمل الأخير للبلاد ومعها لن نخاف بخسا ولا رهقا.. وكيف نخاف وتلك الحكومة أتت بها عبقرية صاحب الهيبة ورئيس الدولة بالوكالة “الباجي قائد السبسي” السياسي المحنك ورجل الدولة الذي نهل الحنكة والحكمة من مستنقع مثله الأعلى “بورقيبة”..
لقد حددوا لمن جاؤوا به أولويات حصروا من خلالها كل العلل والأسقام التي تعاني منها البلاد. وقالوا له انطلق في عملك ولن يبخس عملك إلا جاحد. ولما تبين للناس أن حكومتهم تلك, ووثيقتهم التي خرجت من رحمها لا تتعدى كونها مجرد حشو للعقول والعيون برماد الدجل.. جمعهم كبيرهم الذي علمهم التهريج وبيع الأوهام, وقال لهم لا مناص من وثيقة ثانية تصلح حال البلاد والعباد. وكلف مجموعة قالوا مكوناتها من الخبراء الذين لا يشق لهم غبار.. وكان ل”الباجي” ما أراد.. وجهزوا له خارطة طريق تتكون من عدة نقاط, وأحالوا النقاط التي حولها خلاف إلى لجنة الرؤساء وهم رؤساء الأحزاب والمنظمات الموقعة على وثيقة قرطاج 1. نعم لجنة تمرر ما توصلت إليه إلى لجنة أخرى. وإن لم تحسم اللجنة الثانية الأمر, تكون ربما هناك لجنة.. فلجنة ثالثة, ورابعة.., وهكذا دوليك إلى ما لا نهاية. وكل ذلك جائز, بل واجب وضروري في عرف التهريج السياسي, والقوم في هذا المجال لا يشق لهم غبار البتة.
والحالة تلك انتفض اتحاد الشغل مزمجرا ومتوعدا بالويل والثبور إن لم تقع تنحية قائد الجوقة “يوسف الشاهد”, فهو كما جاء على لسان أمينه العام “نورالدين الطبوبي” سبب البلية والمسؤول الأول عن تردي الأوضاع بهذا الشكل المرعب.
وهنا استغل الابن المشاكس “حافظ السبسي” الفرصة وملأ الدنيا صراخا وبكاء.. وهو يضرب الأرض بكفيه طالبا من أبيه عزل رئيس وزرائه “الشاهد” وإن لم يفعل سيهشم كل ما يجده في طريقه.. وحتى تكتمل الملهاة كان لابد أن يأتي من أقصى هذا السرك صوت الحكمة, ومن يكون غير شيخ الدجل يملك ذلك الصوت.. لقد خرج رئيس حركة النهضة وقالها بكل رصانة واتزان: “إن مصلحة تونس تقتضي مواصلة “يوسف الشاهد لمهامه”, والأمر لا يحتاج أكثر من تحوير وزاري محدود. وإن لم يعجبكم رأيي فالبرلمان هو الفيصل. وفي اللحظة نفسها يقفز المهرج الأول ويعلن تعليق وثيقة قرطاج 2.. مما جعل ” يوسف الشاهد يلتقط أنفاسه ويلقي كلمة متلفزة عكس فيها الهجوم على ابن ولي نعمته, واتهمه بتخريب حزب نداء تونس, وطالبه بالتنحي حماية لكائنهم الهجين “النداء”. وطبعا الغاية واحدة هي مصلحة تونس..
اتحاد الشغل يجزم أن مصلحة تونس تقتضي رحيل “الشاهد” وراشد الغنوشي تكاد تنهمر دموعه وهو يحدثنا عن ضرورة تثبيته في منصبه من أجل مصلحة تونس, والباجي قائد السبسي أبدع لنا وثيقة بجزئين ثم علقها, والغاية في الحالتين مصلحة تونس, والموظف السابق بالسفارة الأمريكية يخشى على حركة النداء من الاندثار فقط خوفا على مصلحة تونس.. وباقي المهرجين العشوائيين من أحزاب ومنظمات مع وضد رحيل الشاهد, هم أيضا همهم الأول والأخير مصلحة تونس.. تناقضات ما أنزل الله بها من سلطان, هدفها فقط خدمة مصالح أجنبية في مرتبة أولى, تليها مصالح شخصية وعائلية, ثم مصالح حزبية, فالولاء المطلق هو للقوى الاستعمارية, والمطية دوما هي مصلحة تونس.. فالخنوع التام لإملاءات صندوق النقد الدولي ورهن البشر والحجر يسوقون له على أساس مراعاة مصلحة تونس. والاتفاقات القاسمة للظهر تستوجبها مصلحة تونس.. لا تسمع إلا “مصلحة تونس”, والحال أن آخر ما يعنيهم هو مصلحة تونس.
لقد باعوا تونس منذ ستة عقود بثمن بخس وكانوا فيها من الزاهدين. كما زهدوا في كرامة أهلها وأقاموا عليها سركا يمارسون فيه كل أنواع التهريج.. تهريج كلفنا سيادتنا وعزتنا.. تهريج جعل عدونا يجوس خلال ديارنا بالطول والعرض, دون أن يرتجف لهم جفن أو يحمر لهم وجه. مهطعين, لا يقدرون إلا على تنفيذ أوامر المسئول الكبير, والتي من بينها التنافس النزيه والشريف في مجال التهريج السياسي. لأنهم يجيدونه على أكمل وجه. وفي تهريجهم صلاح أمر من دربهم وجندهم, و فيه هلاكنا.. وهذا حال كل بلاد المسلمين قاطبة.