خلّف تعيين وزير الداخلية الجديد “هشام الفراتي” جدلا واسعا.. وقسم المهتمين بالشأن العام إلى مؤيد ورافض لهذا التعيين, ولم يتردد من هم ضد اختيار “يوسف الشاهد” ل “هشام الفراتي” في اصدار بيانات شديدة اللهجة, مؤكدين على عدم منحه الثقة في البرلمان. وأقسموا على أنه لن يمر.. وعقدت جلسة منح الثقة لوزير الداخلية الجديد.. وبعد شدّ وجذب, وسجال “مراطوني” حاز الوزير على 148.. عكس ما كان متوقعا.. وعكس ما أكده رؤساء أغلب الكتل بالبرلمان باستثناء كتلة ” حركة النهضة” التي أعلن رئيسها منذ الوهلة الأولى لتعيين “الفراتي” على رأس وزارة الداخلية تأييدهم له.
وما إن انفضت جلسة منح الثقة حتى خرج بعض النواب ورفعوا الغطاء عما حصل في كواليس البرلمان, والأحداث التي سبقت عملية التصويت. وسنكتفي بما صرحت به النائب عن حزب “أفاق تونس” “ريم محجوب” حيث قالت ” حصل في جلسة منح الثقة لوزير الداخلية خطير ومخجل ومفزع… لقد تم الضغط على النواب لجعلهم يغيرون مواقفهم… كما تم استعمال عدة وسائل من ترغيب وترهيب ضد النواب وتهديدهم بتحريك قضايا ضدهم…”. هذا وأكد بعض النواب أن رفع تحجير السفر على رئيس حزب ” الاتحاد الوطني الحر” “سليم الرياحي” كان مقابل تصويت نواب كتلة الحزب المذكور لصالح وزير الداخلية.. ونعود لما جاء في تصريح “ريم محجوب” والتي وصفت ما حصل في جلسة منح الثقة لوزير الداخلية بالخطير والمخجل والمفزع… ولا ندري إن كانت ما قالته كان عن جهل أم عن علم..أي هل تعلم أن ما أفزعها هو من صميم وصلب مفاهيم الديمقراطية.. أم أنها تجهل ذلك وتعتبر أن ما حصل هو اعتداء على الديمقراطية صدر من أشخاص غير ديمقراطيين.
إن ما هال تلك السيدة هو من صميم الديمقراطية بل هو عينها.. فالديمقراطية أوجدوها للوصول إلى مصالح معينة ومحددة تهم أشخاصا دون آخرين, ودولا دون دول.. كما أنها جزرة وفي الوقت ذاته عصا.. تتحول كما ذكرنا حسب المصالح ولا شيء غير المصالح. فقبل حرب الخليج الأولى أجرت بلدان أوروبا استفتاء حول مشاركة جيوش تلك الدول في غزو العراق, وكانت النتيجة ضد المشاركة في الحرب حيث صوت حوالي 75 بالمائة ب لا… ولكن ما حصل هو العكس. وكانت فرنسا وبريطانيا وعدة دول أوروبية أخرى من ضمن القوى التي دمرت العراق بقيادة الراعي الأكبر للديمقراطية الولايات المتحدة الأمريكية.. والتي لها المصلحة الكبرى في غزو العراق, ومن ثمة تواجدها العسكري الدائم في الخليج لتسيطر بالكامل على حقول النفط.. ولتضمن الشركات المتحكمة في العالم عائداته. وتعيق وصوله بشكل يسير للصين القوة الاقتصادية الصاعدة.
وحين قرر رئيس حكومة اليونان عرض سياسة التقشف التي طالبه بها الاتحاد الأوروبي.. رفضت فرنسا اجراء الاستفتاء.. وهدد الرئيس الفرنسي ” ساركوزي” بطرد اليونان من الاتحاد الاوروبي في حالة اجراء الاستفتاء.. رغم أنهم يعتبرون ذلك من أرقى ما جادت به الديمقراطية.. بل هو واجب مقدس على كل حاكم أن يلتزم به ولا يمكن مخالفته بأي حال من الأحوال. وكل حاكم لا يحترم ارادة شعبه جهزوا له في قاموس الديمقراطية أبشع النعوت. وما حصل في جلسة منح الثقة لوزير الداخلية يعد أحد أشكال الديمقراطية البغيضة.. فالتصويت تم أمام أعين الشعب وبطريقة “نزيهة” لا تشوبها شائبة. والنواب مارسوا حقهم في التصويت وعبروا عن قناعاتهم دون أن يتدخل أحد في اختياراتهم.. والحال أن هناك من أغرته الجزرة. وهناك من أرهبته العصى.. كما فعلوا هم وأحزابهم مع اجراء أية انتخابات تشريعية كانت أم رئاسية أم بلدية. فلا صوت يعلوا فوق صوت العصى والجزرة. وبعبارة أوضح لا صوت يعلو على صوت المصلحة الشخصية ثم الحزبية.
وبما أن للديمقراطية أكثر من وجه قبيح.. وكل وجه يفوق الآخر قبحا وبشاعة.. عمل رهبان الديمقراطية على صناعة العديد والعديد من المساحيق ومستحضرات التجميل لإخفاء كل ذلك القبح. كالديمقراطية هي حكم الشعب للشعب, أو هي قبول الرأي المخالف, أو هي الرضوخ لإرادة الناس, وما الحاكم الا خادم لهم.. ونحو ذلك من زخرف القول الذي لا تنطلي أكاذيبه إلا على من كان يعاني من عمى البصيرة, وغرّته المساحيق التي تغطي قبح الديمقراطية. مع أنها هي ذاتها جزء لا يتجزأ من قبحها.