حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال:بعد أن فصّلنا القول في واقع الانتخابات وحكمها شرعا ونزّلنا ذلك على الانتخابات البلديّة والنيابيّة، نتولّى في الجزء الثّاني من المقالة إخضاع الانتخابات الرّئاسيّة لميزان الإسلام من حيث جواز المشاركة فيها ـ ترشّحا وترشيحا ـ من عدمه في ظلّ الظرفيّة السياسيّة التونسيّة الرّاهنة… ولئن كان الأصل في الانتخابات أنّها جائزة شرعًا بوصفها أسلوبًا للانتقاء والاختيار والتّداول على السّلطة، فإنّ حكم الانتخابات الرّئاسية يبقى رهين المناط المتعلّق بها :فانتخاب رئيس للدّولة الإسلاميّة هو ابتداءً من قبيل إبداء الرّأي المجرّد المؤدّي إلى العمل، وهذا ليس من المسائل التشريعية حيث العبرة بقوّة الدّليل الشرعي ،ولا هو من المسائل الفنيّة والفكريّة حيث العبرة بالصّواب والخبرة والاختصاص، بل هو من المسائل العمليّة الصّرفة التي لا تحتاج إلى تركيز ورويّة وإنعام نظر بحيث يدركها الجميع، لذلك يؤخذ فيها برأي الأغلبيّة ويكون رأيُها مُلزمًا.
فالأصل في الانتخابات الرئاسيّة أنّها جائزة شرعًا بوصفها أسلوبًا لاختيار خليفة المسلمين وتزكيته وقد شهدت المدينة المنوّرة على يدي عبد الرّحمان بن عوف نموذجًا راقيًا من الاستشارة والاختيار أفضى إلى انتخاب عثمان بن عفّان رضي الله عنه ثمّ مبايعته بالخلافة…إلاّ أنّ ذلك يستوجب أرضيّة شرعية فيما يتعلّق بالعاقدَيْن والمعقود عليه والعمليّة الانتخابيّة نفسها ـ كيفًا وشكلاً وظرفيّةً وإطارًا ـ فالانتخابات فعل سيادي وترجمة عمليّة للسلطان تُفضي إلى عقد بين المسلمين وحاكمهم، وهي بهذا الشّكل ممارسة من داخل العقيدة الإسلاميّة تفترض من المُرَشِّح أو النّاخب الإسلام والتّابعيّة للدّولة الإسلاميّة ،ومن المترشّح أو المنتَخَب شروط الانعقاد (مسلم ـ ذكر ـ عاقل ـ بالغ ـ عدل ـ حرّ ـ قادر من أهل الكفاية) ،ومن المعقود عليه تطبيق الإسلام كاملا غير منقوص ،ومن العمليّة الانتخابيّة المراضاة والاختيار…وغنيّ عن التذكير أنّ كلّ هذه الشروط معدومة في الممارسة السياسيّة التوّنسيّة الحاليّة ولا يمكن لها أن تتوفّر إلاّ في ظلّ دولة الخلافة الإسلاميّة…
حِرمة بيِّنة
على هذا الأساس وقبل إعطاء الحكم الشرعي في الانتخابات الرّئاسية هناك تساؤل مركزي يجب أن يُطرح: هل ستُجرى في ظلّ الدّولة الإسلاميّة أم قبل قيامها، أي ضمن سلطان الإسلام أم تحت نير الاستعمار والعمالة..؟؟ وبالرّجوع إلى واقع المسلمين اليوم سواء في تونس أو في سائر العالم الإسلامي نلمح دون عناء أنّ سلطانهم مختطف ومغتصب ودولتهم منهدمة منحلّة وشرعهم مُندرِس وغائب عن الحياة بما استتبع ذلك من استعمار وتشرذم… وهو واقع من السّذاجة أن نتصوّر ضمنه إمكانيّة إجراء انتخابات سياديّة يمارس خلالها المسلمون سلطانهم، لأنّ ممارسة السّلطان تقتضي امتلاك السلطان أوّلا أي التحرّر من نير الاستعمار بجميع أشكاله، ففاقد الشيء لا يعطيه..
وعليه فإنّ حكم المشاركة في الانتخابات الرئاسيّة ـ ترشّحا وترشيحا ـ في ظلّ دستور الكفر وواقع العمالة والارتهان وغياب الدولة الإسلاميّة وانعدام السيادة والسلطان هو حرام شرعا البتّة قولا واحدا لسببين رئيسيين :أوّلا لأنّه انتخاب لرئيس لا يحكم بشرع الله وهذا توكيل في حرام وتحاكم إلى الطّاغوت وتكريس للحكم بغير ما أنزل الله ورضى به وكفر بواح صراح (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون): فانتخاب الكافرين هو تأييد لهم وإعانة على ظلمهم وتصديق لهم بكذبهم وتحكيم لهم في رقاب المؤمنين والله تعالى يقول (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) وهل أقوى من الحكم سبيلا على النّاس..؟؟ أمّا السبب الثّاني للحِرْمة فهو مخالفة الطريقة الشرعيّة لإقامة الدولة الإسلاميّة وهذا يقتضي تفصيلا وتأصيلا فكريّا: فكيف تُقام الدّولة الإسلاميّة وكيف يصل الإسلام إلى الحكم..؟؟ هل يمكن أن تكون الانتخابات أسلوبًا أو طريقة لإقامة الدّولة الإسلاميّة..؟؟ هل أنّ صندوق الاقتراع قناة شرعيّة لاستلام الحكم والوصول إلى السّلطة..؟؟ هل يمكن أن ننتخب خليفة في ظلّ حكم الكفر والعمالة والتّبعية والارتهان وغياب السّيادة والسّلطان..؟؟ هل أن غايتنا في نهاية الأمر هي بناء دولة أم استلام حكم..؟؟
مناطان مختلفان
إنّ الانتخابات الرّئاسية قبل قيام الدّولة الإسلامية، ليست هي نفسها في ظلّ الدولة الإسلامية بعد قيامها، فهما شرعًا مناطان مختلفان متباينان لكلّ منهما واقعه وأهدافه وأحكامه وطريقته: فالمناط الأوّل هو مناط وصول الإسلام إلى الحكم أي تأسيس الدولة الإسلاميّة وهو مناط استرداد سلطان…أمّا المناط الثاني فهو مناط سدّ شغور في منصب الخلافة في إطار الدولة الإسلاميّة القائمة، وهذا مناط ممارسة سلطان ،وشتّان بين انتخاب رئيس علمانيّ عميل في ظلّ دويلات (سايكس/بيكو) الكسيحة وانتخاب خليفة يطبّق شرع الله في ظلّ الدولة الإسلاميّة… فالكافر المستعمر جعل من الدّولة الوطنيّة ـ دستورًا وأنظمة ومؤسّسات ومقدّرات ـ ومن الانتخابات ـ آليّة وبرنامجًا وشروطًا ومواصفات ـ أداة لإقصاء الإسلام والمسلمين من الوسط السّياسي ومحاربتهم حرب إبادة لا هوادة فيها…فكيف يُتصوّر أن يعود الإسلام إلى الوجود والحياة عبر نفس آليّات الفناء والموت..؟؟ ودونك الانتخابات الجزائريّة سنة 1991 وما استتبع اكتساح الإسلاميّين لها ،وما تجربة مرسي والإخوان في مصر عنّا ببعيدة: فالمنظومة الديمقراطية بكاملها وظيفتها التصدّي للإسلام، والمسلمون اليوم مطروح عليهم استرداد سلطانهم المعطّل وتفعيله بإقامة الدّولة الإسلاميّة ومبايعة خليفة، وهذا لا يكون عبر صندوق الاقتراع والشرعية الديمقراطية، فهي حلبة الكافر المستعمر التي يستنسخ فيها منظومة الكفر ويُحكم بها قبضته على البلاد والعباد…ولقد حدّد الشرع الإسلامي لكلّ مناطٍ أحكامَهُ وطريقتَه المتميّزة والمختلفة عن الأخرى: فأحكام ممارسة السلطان في ظلّ الدولة الإسلامية (الأمير المؤقّت ـ فتح باب الترشّحات ـ حصر المرشّحين في ستّة ـ حصر المرشّحين في اثنين ـ انتخاب الخليفة ـ بيعة الانعقاد ثمّ بيعة الطّاعة) ليست هي أحكام إقامة السّلطان أو استرداد السّلطان في ظلّ أنظمة الكفر (الحزب ـ التثقيف ـ التفاعل ـ الرأي العام ـ الحاضنة الشعبيّة ـ طلب النصرة ـ استلام الحكم)، فلكلّ مقام مقال ولكلّ مناط طريقة أي كيفية دائميّة للقيام بالفعل…
لكلّ مناط حكم
وبالرجوع إلى السيرة النبوية العطرة نجد أن حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كنبيّ ومشرّع ومؤسّس حكم وباني دولة تنقسم إلى مرحلتين متكاملتين: المرحلة المكيّة أي مرحلة ما قبل تأسيس الدّولة الإسلامية، ثمّ المرحلة المدنية أي مرحلة ما بعد تأسيس الدّولة …وإذا كان الرّسول الأكرم قد بيّن لنا في المرحلة المدنيّة كيفيّة تطبيق الإسلام في ظلّ الدولة الإسلاميّة وحمله إلى العالمين، فقد بيّن لنا في المرحلة المكيّة كيفيّة إقامة الدّولة الإسلاميّة، وذلك بأحكام شرعيّة واجبة الاتّباع هي أحكام الطّريقة…فالإسلام عقيدة سياسيّة روحيّة ينبثق عنها نظام، وهذا النّظام يتكوّن من الفكرة وطريقة تنفيذها، فالإسلام بيّن لنا الكيفيّات التي تُنفّذ بها أحكامه بأحكام شرعيّة أخرى من جنسها: فالفكرة حكم شرعي وطريقة تنفيذها حكم شرعي أيضًا، وكلاهما واجب الاتّباع بحيث لا يُستعمل في تنفيذ الفكرة الإسلامية إلاّ الطريقة الإسلامية المتجانسة معها… وكما بيّن لنا الشّرع الإسلامي طريقة تنفيذ فكرة حمل الدّعوة ألا وهي الجهاد في سبيل الله، وطريقة حفظ المال ألا وهي قطع يد السّارق، وطريقة المحافظة على العقيدة ألا وهي قتل المرتدّ، فكذلك بيّن لنا طريقة إقامة الدّولة الإسلامية بما قام به الرسول من أعمال في المرحلة المكيّة، فهي مناط بحثنا نحن المسلمين اليوم…وبالتّدقيق في هذه المرحلة نجد أنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يخضع للمنظومة الشّركيّة القرشيّة ولم يوظّفها أو يركبها ولم يعط الدنيّة في عقيدته ولم يقبل الحكم مجزّأً ـ رغم أنّه عُرض عليه ـ ولم يدخل في انتخابات ولا خضع لصندوق اقتراع، وإنّما أسّس حزبًا وركّز شخصيّات إسلاميّة وتفاعل مع محيطه البشريّ وأوجد رأيًا عامًّا منبثقًا عن وعي عامّ حول أفكار الإسلام وأرسى قاعدة شعبيّة وأخذ البيعة من ممثّلي النّاس وطلب النّصرة من أهل الشّوكة ثمّ أسّس دولة دون أن يريق قطرة دمٍ واحدة… ونحن اليوم مطالبون شرعًا باتّباع سبيله بوصفها حكمًا شرعيًّا واجب الاتّباع من أحكام الطّريقة (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)…
السّلطان للأمّة
ولكن كيف نصل إلى السّلطة وكيف نتسلّم الحكم..؟؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نحدّد أوّلاً أين تكمن السّلطة والحكم… وباستقراء الشّرع والواقع نلحظ دون عناء أن السّلطة والحكم يكمنان في الأمّة: فشرعًا من قواعد الحكم في الإسلام التي لا يكون الحكم إسلاميًّا إلاّ بها أنّ السلطان للأمّة ولها وحدها الحقّ في إعطائه لمن تشاء… فالله تعالى أسند نصب الخليفة إلى الأمّة وجعل الخليفة يأخذ السّلطان ويصبح واجب الطّاعة ببيعة الأمّة له… والدّولة الإسلاميّة ـ وإن عُرّفت بأنّها خليفة يطبّق الإسلام ـ لكنّ هذا الخليفة تنصّبه الأمّة أو تسلّم بتنصيبه عن رضا، لذلك كانت الدّولة الإسلامية هي الأمّة وليست الحكّام…أمّا واقعًا، فالسّلطة بالمشاهد الملموس لا تكمن عند الحكّام ولا حتّى عند الجيوش: فالحاكم وإن كان يباشر الحكم، ولكن مباشرة الحكم والسّلطان شيء وملكيّته شيء آخر، وليس أدلّ على ذلك من أنّ بقاءه في السّلطة رهين رضا الشّعب عنه ،أمّا إذا ثار عليه فمصيره الخلع أو الانعزال…كذلك الجيش فإنّه لا يملك الحكم والسّلطان وإن كان يملك القوّة لحمايته أو اغتصابه: فهو قوّة ماديّة في يد من يمتلك الحكم والسّلطان، وحتّى إن نصّب نفسه حاكمًا فإنّه يبقى مجرّد مغتصب للسّلطة، والأمّة قادرة على استردادها منه متى تعلّقت همّتها وإرادتها بذلك…فالحكم والسّلطان يبقى في مختلف الظّروف والأوضاع مُلكًا للأمّة، وهي وحدها من يملك الحقّ في إعطائه لمن تشاء نيابة عنها عن رضى واختيار… لكلّ ذلك فقد تبنّى حزب التحرير أنّه يصل إلى الحكم عن طريق الأمّة وأنّ طريقة أخذ الحكم أي كيفيّته الدائميّة هي أن يُؤخذ عن طريق الأمّة، كما تبنّى أنّه يستهدف الحكم بشكل مباشر من يد الأمّة، وأنّ الأمّة هي التي تضعه في الحكم وأنّها الأداة المباشرة في تسلُّم السّلطة… وهذا ما قام به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: فقد أخذ بيعة الحكم والسّلطان في العقبة الثانية من ممثّلي أهل المدينة الحقيقيّين أي أنّه تسلّم الحكم من الأمّة مباشرة وليس من الحاكم ولا من الجيش ولا عبر الانتخابات أو صناديق الاقتراع…
كيف نصل إلى الحكم عن طريق الأمّة..؟؟
كيف تقام الدّولة الإسلامية في الأمّة، وكيف تنبثق من الأمّة، أي كيف يصل حزب التّحرير إلى الحكم عن طريق الأمّة..؟؟ إنّ الدّولة هي كيان تنفيذي لمجموع المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقبّلتها مجموعة من النّاس، فهي كيان يقوم على فكرة، فلا بدّ لبناء هذا الكيان بشكل متين وسليم من العمل على تحقيق ثلاث خطوات تتعلّق بالأمّة…
أولاها: إيجاد رأي عامّ منبثق عن وعي عامّ عند الأمّة على المبدأ أي على أفكار حزب التّحرير ومشروعه الإسلامي: فبما أنّ الحزب يسعى إلى إقامة سلطان إسلامي وبناء دولة إسلاميّة كان لا بدّ له من أن يغيّر نظرة النّاس إلى المصالح وأن يُرسي مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلاميّة لدى الأمّة وإقناعها بتقبّلها حتّى تصبح جزءًا منها ومطلبا لها…
ثانيتها: بناء القاعدة الشّعبيّة وأخذ القيادة الفعليّة للأمّة، ويتحقّق ذلك إذا حصل التّجاوب من النّاس واحتضنوا الفكرة الإسلاميّة وحملتها وبايعوا الحزب بيعة حربيّة كبيعة العقبة الثّانية…
ثالثتها: طلب النّصرة من أهل الشّوكة والقوّة لحماية الدّولة والحكم… وإذا تحقّقت هذه الخطوات الثّلاثة فإنّ استلام الحكم يكون تتويجًا طبيعيًّا ونتيجةً حتميّةً، فبما أنّ الحكم والسّلطان يكمن في الأمّة فلا بدّ أن يقوم هذا الحكم على الفكرة التي تعتنقها الأمة: فإذا وجدت فكرة الدّولة في الأمّة فقد وُجدت الدّولة وإذا ضعُفت أو غابت فقد اضمحلّت الدّولة فالأمّة هي التي تقيم الدّولة وهي السّند الطّبيعي للسّلطة والوسيلة الفعّالة لإزالة السّند الخارجي الذي يُبقي العملاء في السّلطة… لذلك فإنّنا لا نباشر بالعمل لبيعة خليفة إلاّ بعد التأكّد من تجاوب النّاس، فقضيّتنا ليست استلام حكم بل قضيّتنا بناء دولة، والفرق شاسع بين إقامة الدّولة وأخذ الحكم: فالدّولة تُقام في الأمّة بتركيز الفكرة فيها وإيجاد رأي عامّ منبثق عن وعي عام وبناء قاعدة شعبيّة وأخذ قيادة النّاس ـ وهذا يحصُل على الميدان وليس في صناديق الاقتراع أو عبر الانتخابات ـ أمّا استلام الحكم فهو مجرّد عمل من أعمال إقامة الدّولة كتتويج لها… على هذا الأساس فإنّ حزب التّحرير لا يقبل الحكم إذا لم يكن تتويجًا طبيعيًّا لقيام الدّولة، وقد عُرض عليه الحكم أكثر من مرّة (1952 ـ 1957 ـ 1961 ـ 1963) ولكنّه رفضه لأنّه فخٌّ مميت من طرف المستعمر..