النهضة فكرية روحية وما دون ذلك خراب
ثارت تونس على نظام أهلك الحرث والنسل, معلنة رفضها لاستمرار حالة الخراب والهدم والطغيان الذي غمّ حياة الناس وكتم أنفاسهم ونثر في تونس بذور أزمة مدوية وناسفة للقيم.
ثورة تعرضت تونس على إثرها إلى حملة كبيرة متسلسلة وممنهجة استهدفت هدم القيم، من النظام الرأسمالي وأزلامه بكل الوسائل القذرة والمنحطة، فلم تترك حكومات ما بعد الثورة وسيلة من الوسائل إلا واستخدمتها وجيرتها في سبيل هدم القيم والتسلل إلى عقول الكبار والصغار حاملة شحنات هائلة من المفاسد، فلو أتينا إلى قنوات التلفزيون سنجدها تبث إلى اليوم سموماً قاتلة تستهدف الأخلاق من خلال المسلسلات تظهر الفاسق مقداماً جريئاً شجاعاً يحتذى به, وما إن ينتهي المسلسل حتى نشاهد بين شباب من يتأسى به فيثمر عللاً وفساداً بعضه فوق بعض فتنتزع الرجولة من الشباب، والعفة من الشابات، وأصبح العري موضة والانحراف نقاهة والالتزام تخلفاً، وعمد النظام العلماني بأيدي الحكام الوافدين على تكثيف حملات التغريب واستيراد كل ما فيه شذوذ وتدمير للأسرة والعلاقات السوية وضخت في واقع الناس حتى أصبحت القيمة الأخلاقية مزيفة مجردة من مقصدها فصار يجري تحقيقها لنيل المادة فقط، والقيمة الإنسانية تكاد أن تنقرض بعد أن طغت الماديات على أذهان الناس, كما سعت الحكومات إلى تجفيف القيمة الروحية بمحاربة كل من يدعوا لتحكيم الإسلام وإسكات صوت المنادين بالحكم بما أنزل الله فجعلت نفوس الناس باهتة لا تدرك صلتها بالله في كل عمل تقوم به.
خراب المزاج… فساد الأخلاق والمعاملات جميعها.. تبعات وخيمة على كل مناحي الحياة البشرية ونتيجة حتمية ومباشرة لاستبعاد حكم شرع الله في خلقه, استبعاد لنظام قويم رشيد, فعلٌ إجرامي في حق الإنسانية قاطبة, خلق مناخا من الفوضى العارمة في الحياة وأحدث اختلالا في موازين الحياة وسننها التي حددها خالقها وموجدها من عدم. جُرم شنيع أدخل الناس في متاهة لا مخرج منها وفقدان لكل مقومات العيش الكريم وعجز كلي في الاستجابة لمتطلبات الحياة السوية التي شاءها الله لعباده…
الثابت اليوم ونحن نرى الأمة الإسلامية وما هي عليه, أنّ لهذا الجرم كلفته، والثابت أيضا والمعلوم أنّها باهظة وشاقة بل لعلّ أفدحها ما خلفته من كدمات فكرية غائرة في النفوس وإن اختلفت تلك الآثار من بلد إلى آخر.
كثير ممن يضعون أنفسهم في خانة “النخبة” في المجتمع, أو قل جلّهم, يجلدون أهل البلد المسلمين ليل نهار بأقوال من قبيل “انظروا الى الغرب المتطور المتقدم” ” لماذا تريدوننا ان نتخلف عن ركب الثقافة الغربية الحديثة” …
ووفقا لما تشهده تونس وبلاد المسلمين عامة من تغييرات سريعة ومتواترة, فبالإمكان ان نجيز لأنفسنا القول بأن الجميع يريد أن يرى الأمة متقدمة ومزدهرة، لكن يجب أن نسأل أولاً: ما هو التقدم؟ وما هو الازدهار؟ وما هو مقياس التقدم والازدهار؟ هل هو بوجود ناطحات سحاب ضخمة، ومدن مضيئة مثل لاس فيغاس المليئة بالكازينوهات؟ أم هي تكنولوجيا الإنترنت، والأقمار الاصطناعية، والسفن الفضائية والأسلحة النووية؟ أم هي كثرة النساء المغريات في الشوارع، والأجسام شبه العارية؟ إذا كان هذا مقياس التقدم عند العلمانيين فإنهم بالتأكيد قد وصلوا إلى حالة من الإفلاس الفكري.
فالعلمانية آفة ما يسمى الغرب الحديث، الذي تجرد فيه البشرية من كل مقومات الإنسانية وتستفحل داخله كل أشكال الحياة الحيوانية المغلفة بزينة الحداثة المادية الزائفة, إذ بتلك المفاهيم الغربية الهدامة ينتزع شرف المرأة بشكل وحشي في البيوت والشوارع والمكاتب وحتى في المدارس، وفشل ملوكهم وحكامهم في توفير الحماية لهن، حتى بعد سن قوانين جديدة وصارمة على مدار الساعة. علاوة على ذلك فان هناك رغبة وأنانية بلا حدود اشتهرت بها حتى أماكنهم المقدسة وأصبح وعاظهم وكهنتهم منحرفين أخلاقياً. فبلدان مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا مثلا وصلت إلى ما وصلت إليه من تقدم في والتكنولوجيا، ولكنهم اتجهوا في المقابل إلى الدمار والانحطاط الأخلاقي والتجرد من القيم. فلم تقصفهم بلدان أصولية بأطنان من القنابل القاتلة، ولكن سر هذا الدمار الذي يواجهونه والذي رمونا به بتواطؤ من الحكام الخونة هو بتأثير “العلمانية” والتي تعني إنكار الإسلام العظيم في جميع نواحي الحياة، وفي المجتمع والدولة واعلاء شأن المتعة المادية واللذة الدنيوية المطلقة. إن تأثير هذا السم القاتل بدا واضحاً في عائلاتهم ومجتمعاتهم وبلدانهم من الأفراد إلى العموم. ومنه إلى بلادنا ومجتمعاتنا بخطط خبيثة ومدروسة..
إنه لمن السخرية قيام بعض المثقفين المضبوعين بالغرب بالمناداة بفصل الدين عن السياسة، في الوقت الذي يتجه فيه العديد من الناس في الغرب نحو الإسلام ومقتضياته محاولين الخروج من دمار العلمانية عن طريق الالتزام والعودة إلى ضوابط ربانية تعيد للحياة اتزانها. لكن بعض المثقفين العلمانيين في بلادنا وصلوا إلى حالة الإفلاس الفكري، إذ يدعون إلى عدم تدخل الدين بالسياسة لإزالة الإسلام من المجتمع جذريا. وهو ما فشلوا فيه والحمد لله, رغم كل ما مكروه وما أتته أيديهم العابثة.
إن الدعاية ضد الإسلام، والترويج لمفاسد النظام الغربي ونفاياته لعبة مخطط لها من قبل الغرب. فبعد هدم الخلافة في سنة 1924م، لم يتوقف الغرب عن عدوانه السياسي، والاقتصادي، والثقافي لتحويل البلاد الإسلامية إلى مستعمرات تابعة له. وتعتبر العلمانية إحدى الأشواك التي زرعوها في قلب العالم الإسلامي لتنفيذ هذا العدوان، للوصول إلى ما يريد من مشاريع، عن طريق الحكام ومن يسمون بالمثقفين المأجورين من الغرب والذين باعوا دينهم وعقيدتهم.
إن هذا هو الوقت المناسب لاتخاذ القرار الصائب -بعد معرفة النتائج الخطيرة للمجتمع الغربي العلماني- فإما أن نبقى صامتين ومخدوعين من قبل ما يسمى بـ(المثقفين)، أو أن نشارك في الصراع الحضاري لاستئصال العلمانية من أرضنا وتحرير الأمة بالكامل.
إن قياس المجتمعات الإنسانية في حياتها الدنيوية لا يكون إلا بتحقيق القيم الأربع الروحية والمادية والإنسانية والخلقية، كل في مكانها، فالمجتمع الذي يحقق القيم الأربع مجتمع ناهض وراقٍ، واليوم لا يوجد أي مجتمع تحقق فيه هذه القيم برعاية من الدولة، ولن توجدها إلا دولة الخلافة الراشدة الثانية.
وإذا لم يتحرك سريعاً أهل الغيرة والنخوة من الناس والضباط لقلع هذه الأنظمة وإقامة دولة الخلافة محلها فالخرق سوف يزداد وسوف يرون أبناءهم وبناتهم يتفلتون من بين أيديهم ويصبحون سلعاً، فما فائدة العيش عند ذلك؟!
أحمد بنفتيته
CATEGORIES متفرقات