انكشفت ديمقراطيتهم وتعفن الوضع العام بهم، ولم يجدوا إلا الإسلام السياسي مشجبا يعلقون عليه فشلهم
بين اعترافات الباجي قائد السبسي، في منابر مختلفة، بقاعدة التزوير في كل الانتخابات، بل واستحالة الرجاء في نزاهتها مستقبلا، فالتزوير عنده في أي انتخابات لاحقة هو الأصل بما يعلمه من طبيعة المنظومة السياسية المتحكمة في المشهد السياسي في بلدنا، وبين إعلان رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فاروق بوعسكر إنه: “للمرة الأولى في تونس تجرى انتخابات نظيفة وخالية من الشوائب”، نافيا بذلك النظافة والخلو من الشوائب حتى على انتخابات 2019 التي أوصلت قيس سعيد إلى رئاسة البلاد، تأتي النسبة المتدنّية، وغير المسبوقة تاريخيا على المستوى السياسي، لتكشف، وتفضح الطبقة السياسية بمختلف مشاربها، بعد أن ردّ الرأي العام التونسي، على وجوه الجميع، “برامجهم” وعنترياتهم الزائفة. إن الصفعة الانتخابية التي صفق بها أهل تونس، وجوه المتصدرين والمتسلطين على الشأن العام، كانت أشد إيلاما وأوقع أثرا على أولياء نعمهم وسندهم الحقيقي، من القوى العالمية، التي باتت تدرك يقينا أن الشعب التونسي لا يزال يمتلك ميوله وقراره، وأنه لا يلقي بقراره جزافا، وأنه حين يفصل في أمر، أو يتخذ موقفا من طرف سياسي, فحكمه قاطع لا تعقيب له. فالقوى الاستعمارية دولها، ومنظماتها، ومراكزها الإستراتيجية، باتت تعي تمام الوعي أن الخطر على وجهة نظرهم، الديمقراطية، التي يسوقونها بيننا على أنها العلاج الفرد لهمومنا، ليس في قيس سعيد وتفرده بالسلطة وضربه لمؤسساتها، ولا هو في اعتدال الإسلاميين المهجنين، تطرفوا أو اعتدلوا، ولا هو في أنصار الوطنية الغبية، بل الخطر كل الخطر في لا مبالاة أهل تونس بالخدع والتضليل الذي يراد سوقهم به، وما يستبطنونه من رؤى تكشف عن عمق حقيقة نظرتهم للحياة كونهم يؤمنون بالله الذي له الخلق والأمر.
يظل سوء فهم الواقع على حقيقته، أبلغ خطر في العمل السياسي من أي خطإ يمكن أن يرتكبه الفاعل السياسي، لارتباط كل قراراته وإجراءاته بذلك الفهم تحديدا. فالطبقة السياسية في تونس وهي ترى العزوف، شبه الكلي، عن العملية الانتخابية، وإعراض الناس عن الطبقة السياسية، فانقسمت إلى قسمين، لم يضع أي منهما مسألة المنظومة الفكرية السياسية التي أديرت بها قضايا الناس المختلفة منذ أن استخلف المستعمر أذنابه على سلطانه فينا، إلى يومنا الذي لا ينكر أحدهم صفاقة التدخل الخارجي حتى صار يعد من الأمور التي لا يمكن التفصّي منها بل علينا القبول بها والتعايش معها :
ــ قسم يرى في الحال الذي جر قيس سعيد البلاد إليه، فرصة لعودته إلى واجهة الأحداث، فانبرى يشيد بضرورة وأهمية الحوار بين كل الفرقاء على قاعدة المشترك الوطني، في اجترار مقيت لشعارات لا معنى لها ومصطلحات إجرائية لا تعالج مشكلة: توازن السلطات، النقاش الوطني حول القضايا ذات الأولوية، حكومة وحدة وطنية… في صورة القوامين على الناس إعارة نظر لمفهومهم عن الحياة وأنهم عقلاء يحملون تصورا واضحا عن الوجود ولهم في ذلك رأي وموقف لا يحول، بل صار أغلب هذا القسم يتقرب إلى القوى الخارجية بالشكوى إلى مؤسساته وهيئاته القضائية، دون خجل، تحذيرا من الخطر الذي يتهدد ديمقراطيتهم.
ــ قسم يرى في الحال الذي جر قيس سعيد البلاد إليه، فرصة لانفراده بالشأن العام، ولا يرى ضيرا هو أيضا في التشكي من خصومه إلى نفس الجهة الاستعمارية بمختلف مؤسساتها وحذرا من أن الخطر هو في الإسلام السياسي، أي أن الخطر يحذر منه هؤلاء هو ما تمثله عقيدة الناس وما انبثق عنها من مفاهيم ومعالجات. فاجترؤوا على الأمة يريدون حكمها والتسلط عليها بما ينافي عقيدتها ظنا منهم أن اعتمادهم على السند الخارجي يغنيهم عن رضا وقبول الناس.
إلا أن من خطل رأيهم وفساد نظرهم أنهم بنوا مواقفهم تلك على غير الحقيقة. فتبني هؤلاء وألئك فكرا، علاوة على فساده وبطلانه، يناقض ما آمن به الناس، واعتبارهم أن معالجة معضلة أهل البلد وسببها هو فشل الإسلام السياسي، فكان لا بد من إقصائه من الحياة العامةٌ، وهم أدرى الناس وأولي نعمهم أعلم وأوعى منهم بأن الإسلام لم يحكم يوما منذ أن أسقطت دولته، بل الأمر كله مخادعة ومكرا، وتوظيفا خبيثا لطغمة ارتضت أن تعطي الدنية في دينها.
فأهل تونس الذين أسقطوا من حسابهم جملة الاتجاهات السياسية التي ظنوا بها يوما خيرا، لن يعيروا ديمقراطيتهم انتباههم، ولن يعيروهم اهتماما وقد اسقطوا آخر العنقود الفرد الذي أولوه بعض الرجاء فسقط. وانكشفت أمامهم ديمقراطيتكم على حقيقتها، وزالت غلالة التضليل التي كانت تلفها، حتى أنها لم تستفد ممن ادعى القدرة على “دمقرطة الإسلام” فصارت تتخبط بهم، تقصيهم حينا وتلجأ إليهم حينا آخر.
ولم تفلح الديمقراطية في خداع الأمة بمن ادعى الانتساب إليها ثم مالأ عدوها وركن إلى من سامها الضيم وأرهقها ظلما وعدوانا، فلفظتهم وأسقطتهم من حسابها. فالإسلام لم يحكم حتى يفشل، وهو على موعد مع أمة الخير. وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51)
CATEGORIES كلمة العدد