ألمانيا وأمريكا تقلبان النظام العالمي

ألمانيا وأمريكا تقلبان النظام العالمي

الخبر:

رفضت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل اقتراحها بأن أوروبا لم تعد قادرة على الاعتماد بشكل كامل على الولايات المتحدة وأعلنت أن ألمانيا والصين يمكن أن تعملا معا للمساعدة على تهدئة مشاكل العالم. وقالت ميركل، التي رحبت بالرئيس الصينى شي جين بينغ في برلين، إن اجتماعهم قبل القمة “يمثل فرصة جيدة لتوسيع علاقاتنا الاستراتيجية الواسعة” [الإندبندنت]. وبذلك، فإن السؤال الذي كان مطروحا هو ما إذا كانت ألمانيا قوية بما فيه الكفاية لتحل محل الأولوية الأمريكية في أوروبا، وبشأن القضايا العالمية.

التعليق:

لقد كانت التكهنات حول ألمانيا تسيطر على الشؤون العالمية منذ سقوط جدار برلين في عام 1989. ومع ذلك، فبعد زيارة ميركل لواشنطن، برزت ألمانيا كمنافس جدي للهيمنة الأمريكية في أوروبا. وفي تجمع ميونيخ في أيار/مايو 2017، قالت ميركل للجمهور إن أوروبا لم تعد قادرة على الاعتماد على بريطانيا وأمريكا، وعلى أوروبا القتال من أجل مستقبلها. وقالت: “إن الأوقات التي يمكن أن نعتمد فيها تماما على الآخرين تكون، إلى حد ما، والآن قد أصبح هذا الأمر زائدا عن حده. كما وعلينا أن نعلم أنه يجب علينا أن نكافح من أجل مستقبلنا بمفردنا، من أجل مصيرنا كأوروبيين” [الغارديان]. وقد رأى بعض المراقبين أن هذه الملاحظات رأت على نطاق واسع أن ألمانيا قد توصلت أخيرا إلى شروط بشأن مسؤوليتها في قيادة النظام العالمي الليبرالي. ويؤكد المعارضون أن ألمانيا غير قادرة على القيادة ولا تشكل تحديا لأولوية أمريكا العالمية. وينبع اشتقاق كلا الرأيين من تاريخ أوروبا في توازن القوى ودور ألمانيا في تشتيت هذا التوازن (السلام).

قبل معاهدة روما في عام 1957، كانت الطريقة المهيمنة لتنظيم العلاقات بين الدول الأوروبية هو توازن نظام السلطة. تأسست أوروبا في أعقاب اتفاقات وستفاليا في 1648، وعملت على توازن القوى للحفاظ على السلام في القارة. وهذا النظام يعمل عندما تجعل مجموعة من الدول الدولة المعتدية – عادة من خلال الحرب وبتكلفة باهظة – لتغيير سلوكها والعودة إلى التوازن (حالة السلام المصطنعة). إن ضامن السلام هو أقوى دولة يمكن أن توفر الأمن لدول أوروبا الصغيرة من خلال قواتها العسكرية.

فعلى سبيل المثال، أجبرت بريطانيا مع عدد من الدول الأوروبية فرنسا على وقف عدائها خلال حروب نابليون (1803-1815). وفي القرن العشرين، تحالفت مجموعة من الدول الأوروبية عسكريا لإجبار ألمانيا على التراجع عن سلوكها العدواني في الحربين العالميتين الأولى والثانية. وطوال هذه الفترة، لم يكن هناك سوى قوتين غير أوروبيتين كانتا هما الضامنتين للسلام. فمنذ ما يقرب من مائتي سنة قدمت الخلافة العثمانية ضمانات أمنية لأوروبا وتولت دور الضامن الخارجي. ومنذ عام 1945، لعبت أمريكا الدور الرئيسي للضمان في القارة.

مؤيدو السلطة الألمانية يؤكدون أن ألمانيا نجحت في التغلب على أغلال الناتو، واعتماد عملة اليورو، وتوسيع الاتحاد الأوروبي ليصبح القوة البارزة في أوروبا. وفي رأيهم، الاقتصاد الألماني القوي يقزم اقتصادات العديد من الدول الأوروبية – وأصبح هذا ممكنا بسبب الأزمة المالية العالمية التي حدثت في عام 2008، والتدابير التقشفية التي فرضت على جنوب أوروبا وأخلاقيات العمل في مؤسساتها التي تقود مؤسسات الاتحاد الأوروبي مثل البنك المركزي الأوروبي، كما أن الوجود العسكري الألماني في أفغانستان وفي أماكن أخرى زاد الرغبة للنزعة العسكرية. هذا بالتوازي مع استمرار الخلل التجاري مع أمريكا وتهديد ترامب من خلال التعريفات العقابية على الواردات الألمانية، وهذا يؤكد على صعود السلطة الألمانية. وعلاوة على ذلك، فإن بريطانيا التي تعتبر ضمن الاتحاد الأوروبي مع فرنسا تتطلع إلى إعادة بناء اقتصادها لتصبح بصورة أفضل أمام ألمانيا. كما أن هناك إدراكاً متزايداً من أن القرارات المهمة التي تُتخذ بشأن الاتحاد الأوروبي يتم اتخاذها في برلين وليس في بروكسل. ولذلك، فإن تصريحات ميركل لا ينظر إليها بشبهة بل تفسر على أنها امتداد طبيعي للتطلع الألماني لتولي دور القوة القارية الأولى في أوروبا.

وفي الوقت نفسه، فإن المعارضين يملكون قراءة مختلفة للتاريخ ويشيرون إلى أن ألمانيا في أحسن أحوالها تكون هيمنة مترددة غير قادرة على توفير القيادة. وكان الرايخ الألماني (1871-1943) كارثيا في قيادة أوروبا في الماضي، وهذا ما زال يؤثر سلبا على نفسية الألمان اليوم. الألمان في بعض الأحيان يترددون في أخذ زمام المبادرة لأنهم يعتقدون أن أوروبا سوف تتفاعل سلبا مع تأكيداتهم. إن الأزمة المالية العالمية التي أعقبتها أزمة اليورو، وأزمة الديون اليونانية، والصراع الأوكراني، ومشكلة اللاجئين الأخيرة تشكل مثالا على هذه المشكلة، وقد تعثرت القيادة الألمانية في جميع الحسابات. ولعل أبرز مشكلة بالنسبة لألمانيا هي عدم قدرتها على تقديم السلطة في الخارج. والانشغال مع أوروبا يعني أن ألمانيا كانت تضع اقتصادها على مدى عقود من أولى أولوياتها وتفضله على القوة العسكرية. فتجنبت ألمانيا الأسلحة النووية ولم تدعم جيشها مقارنة بالسلطات المتنافسة، ويرجع ذلك جزئيا إلى القيود المفروضة من قبل الناتو وأمريكا وروسيا. فالعسكريون البريطانيون والفرنسيون هم أكثر قوة بسب تمكنهم من متابعة السياسة الخارجية خارج نطاق الاتحاد الأوروبي. كما أن ألمانيا لم تستطع بعد تحقيق نسبة 2٪ من التزاماتها بالناتج المحلي الإجمالي لحلف شمال الأطلسي – وهذا هو محور ترامب الأخير الذي يستخدمه ضد ميركل. وبعيدا عن القوة وعن العضلات العسكرية، فإنه من المستحيل على ألمانيا أن تحل محل أمريكا كمزود للأمن الأوروبي، وأن تقف ضد العدوان الروسي وأن تتصرف على الصعيد العالمي. كما أن ألمانيا على الصعيد العالمي تعتمد على الحماية الأمريكية للطرق البحرية، وبهذا يكون بإمكان ألمانيا الاستفادة من التجارة.

وبناء على ما سبق، فإنه من غير المرجح أن تعارض ألمانيا أمريكا في المسائل الأمنية. وحرصا على عدم إزعاج جيران مثل بولندا، فمن المتوقع أن تعمل ألمانيا بشكل مشروع من خلال الاتحاد الأوروبي لبناء قدراتها العسكرية. وفى الوقت نفسه، من المحتمل أن تستخدم ألمانيا قوى كبيرة أخرى مثل الصين وروسيا لمعارضة أمريكا حول القضايا العالمية مثل تغير المناخ والتجارة العالمية والقضايا الملحة الأخرى. وهذا يعني أن الصعود الألماني لتكوين قوة عظمى سيكون بطيئا ومشوشا. ولا يمكن تقليص صحة هذه الأنباء إلا عندما تتحول الطبقة السياسية الألمانية إلى مرحلة ناجحة من المسائل الاقتصادية إلى حل المشاكل السياسية في العالم. كما أن مشاركة وزير خارجية ألمانيا في النزاع بين قطر والسعودية هو مؤشر على أن هذا التحول جار.

إن رسم وبيان نهوض ألمانيا أمر مهم لأبناء الأمة الإسلامية لمتابعة وفهم ما يحدث. إن فهم التقلبات في النظام الدولي واستغلاله لصالح الأمة هو واجب على السياسيين الإسلاميين الطامحين. ألمانيا هي واحدة من الدول الأوروبية القليلة التي لم تستعمر العالم الإسلامي وحافظت على علاقات جيدة مع الخلافة العثمانية. وستستمر دولة الخلافة على منهاج النبوة مستقبلا في منع تدخل أوروبا المستمر في الأراضي الإسلامية، وقد تستخدم ألمانيا لإنجاز هذه المهمة.

 عبد المجيد بهاتي

CATEGORIES
TAGS
Share This