إلغاء (الأبارتايد) في جنوب إفريقيا  2/2: توبة وتكفير واعتذار أم التفاف وتبييض واستثمار..؟؟

إلغاء (الأبارتايد) في جنوب إفريقيا 2/2: توبة وتكفير واعتذار أم التفاف وتبييض واستثمار..؟؟

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: إنّ التفرقة العنصرية المقيتة التي عانى منها السّكان الأصليّون في جنوب إفريقيا منذ القرن 17م، وسياسات الفصل العنصري (الأبارتايد) التي مارستها حكومة الأقلّية البيضاء ضدّ السود والملوّنين طيلة أكثر من أربعة عقود (1948-1993)، لم تحقّق غايتها بل أفرزت نتائج عكسيّة وكشفت عن هشاشة نظام (بريتوريا) وتآكله وعجزه عن الثبات والصّمود أمام المتغيّرات المحلّية والإقليمية والدوليّة: فقد كان الهدف من نظام الفصل العنصري فرض إطار قانوني يحافظ على الهيمنة السياسيّة والاحتكار الاقتصادي للأقلّية المستعمِرة ذات الأصول الأوروبيّة…إلاّ أنّه ومع نهاية عقد الثمانينات من القرن المنصرم، بدأت حكومة الحزب الوطني اليميني الأفريكاني تترنّح تحت ضغط النبذ الإقليمي والجفاء الدّولي والاضطرابات الدّاخلية بشكل ينذر بزوالها ويهدّد بجدّية مصالح الأقليّة البيضاء وهيمنتها على دواليب الدّولة…إلى هذا الحدّ بدا واضحًا أن السلطة في (بريتوريا) إزاء خيارين أحلاهما مرّ: إمّا المواصلة في نهج التحدّي والتّصعيد والقبضة الحديديّة بما يرشّحه ذلك من خطر الانفجار وفقدان السيطرة ثمّ السّقوط…أو مسايرة منطق العصر ومتغيّراته ومستجدّاته، والقيام بانحناءة بسيطة أمام العاصفة السوداء بما يمثّله ذلك أيضًا من (تضحيات أليمة) تحرم الأقليّة البيضاء من بعض فتات مائدة جنوب إفريقيا…فماذا تُراها ستختار..؟؟ وكيف ستجسّد خيارها على أرض الواقع..؟؟ ومن سيتكفّل لها بذلك..؟؟

منديلا أم…؟؟

مدفوعة بالمنطق البراغماتي اختارت حكومة الأقلية البيضاء ـ ومن ورائها زعيمة (الكومنولث) بريطانيا ـ الحلّ الثاني الذي يحقّق لها المعادلة الصعبة التالية: تواصل سيطرة العرق الأبيض على مقدّرات البلاد ومراكز القرار فيها مقابل وهم المساواة وبعض التنازلات الشكلية…فتلك الخطوة (الشّجاعة) حتميّة تاريخيّة وضرورة سياسية اقتضتها المرحلة بمتغيّراتها ومستجدّاتها بحيث يجب الإقدام عليها ـ حتّى وإن لم يطالب السود بها ـ لأنّها خطوة استباقيّة في مصلحة البيض من باب الوقاية خير من العلاج، إلاّ أن السّير فيها لا يخلو من أخطار ومعرقلات: فمن الأقليّة البيضاء من يعارضها ويتشبّث بنظام (الأبارتايد) حفاظًا على نفوذه ومصالحه وطريقة عيشه وتفكيره، كما أنّ الأغلبية السوداء من ضحايا الميز العنصري قد ترى فيها فرصةً للانتقام وارتكاب الجرائم البشعة…من هذا المنطلق أخذت بريطانيا تنبش في سجون جنوب إفريقيا بحثًا عن الرّجل الذي سيتكفّل بترويض السّود وتدجينهم وتبديد مخاوف البيض وتقديم الضمانات الكفيلة بتطمينهم وتهدئتهم مع الحفاظ على ولاء البلاد لها…هذه المواصفات النّوعية اجتمعت في المحامي الجريء المسجون منذ 27 سنة (نيلسون مانديلا) بالإضافة إلى ما يتمتّع به من (كاريزما) وشهرة داخليّة، لذلك وجدت فيه بريطانيا ضالّتها وراهنت عليه ليكون بمثابة ياسر عرفات جنوب إفريقيا، و(المنديلة) التي يمسح فيها البيض جرائمهم العنصريّة، والجسر الذين يواصلون عبره سيطرتهم على البلاد والعباد…على هذا الأساس، ومنذ سنة 1985 انخرطت (بريتوريا) في مفاوضات سرّية مع مانديلا ومجموعة من رفاقه (ثابو مبيكي ـ ديزموند توتو…) من داخل سجنهم في جزيرة (روبن) إلى أن استوت الطّبخة سنة 1990: في تلك السنة ترأّس الحكومة البيضاء (فريديريك دوكلارك) الذي فاجأ العالم وأعلن عن فشل سياسة (الأبارتايد) وألغى جميع القوانين العنصريّة وأقرّ حزمة من الإصلاحات (دستور ديمقراطي ـ حق الانتخاب للجميع ـ المساواة أمام قضاء مستقلّ…) كما رفع الحظر عن الأحزاب السياسية وأطلق سراح جميع السجناء السياسيّين ودخل في مفاوضات مع مانديلا وطاقمه تُوّجت بانتخابات عامّة سنة 1994 فاز فيها بأغلبيّة ساحقة (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي) وأصبح (الزعيم مانديلا) أوّل رئيس أسود لجنوب إفريقيا…

مصالحة أم التفاف وتهرّب..؟؟

إنّ العنصرية هي عقلية ونظرة ومشاعر وأحاسيس قبل أن تكون ممارسةً وسلوكًا، كما أنّ الاستعمار هو وضع سياسي واقتصادي وثقافي قبل أن يكون غزوًا عسكريًّا أو قبضة أمنيّة…فقد تُجرَّم الممارسات العنصريّة قانونيًّا ودستوريًّا ولكن النظرة العنصرية والمناخ العنصري يبقى سائدًا، كما قد يغيب الغزو العسكري الأجنبي ولكنّ واقع الارتهان السياسي والاقتصادي والثقافي للعدوّ يبقى مكرّسًا…هذه النّاحية الشكليّة راهن عليها الاستعمار الجديد ليحظى بالقبول والدّيمومة، كما راهن عليها البيض في جنوب إفريقيا لضمان سيطرة عنصرهم على الحكم والثّروة مع التفصّي من تبعات جرائمهم العنصريّة ضدّ الأغلبية السّوداء…ذلك أن تجربة العدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا لم تنشأ عن رغبة ذاتية جماعيّة صادقة مخلصة ناجمة عن اقتناع بفداحة الجرم المقترف وأسف وندم على اقترافه وعزم على الإقلاع عنه ورغبة في الاعتذار من الضحيّة، بقدر ما قامت على محاولة التهرّب من العقاب بأخف الأضرار عبر الالتفاف حول الاعتذار وإفراغ المصالحة من محتواها والمزايدة على شكليّات الممارسة الاستعماريّة العنصرية وأعراضها دون المساس بكنهها وجوهرها…فقد تجسّدت تلك التجربة في شكل محاكمات شعبيّة أُطلق عليها (لجان الحقيقة والمصالحة) وعُهد إليها بإماطة اللّثام عن التّجاوزات والجرائم العنصريّة وإنصاف الضّحايا وُصولاً إلى تسوية غير جزائيّة للملفّات العالقة، أي أنّه تمّ الاكتفاء بالاعتراف مع استبعاد المتابعة خاصّةً بالنسبة للفاعلين السياسييّن…أمّا عن التسوية في حدّ ذاتها فقد قامت أساسًا على منطق الضغط والابتزاز والمقايضة وذلك وفق أشكال ثلاث: أولاً الاعتراف مقابل التفصّي: أي أنّ مجرّد الإقرار بالجرم المقترف يُعفيك من المسؤوليّة عنه…ثانيًا: التعويض مقابل إسقاط الحقّ، أي أنّ التعويض المادّي للضحية يُسقط حقّها في التّتبع…ثالثًا: رعاية الشؤون مقابل العفو، أي أنّ إقامة المشاريع العامّة والبنية التّحتية التي هي من صميم مسؤوليّة الدّولة في رعاية الشّؤون تُلزم الجماعات بالعفو وتُسقط حقّها في التّتبع…

(كلام اللّيل…)

هذا على المستوى النّظري: أمّا على المستوى التّطبيقي فإنّ الخور يتضاعف: إذ أنّ الجهود الجبّارة التي بُذلت من أجل محاسبة مرتكبي جرائم التّمييز قد باءت كلّها بالفشل الذّريع…فبعد الالتفاف على مبدأ الاعتذار والمصالحة وإفراغه من محتواه، جاء الدّور على التّسوية ذاتها ومبدأ التّعويض والجبر الذي تقوم عليه: فقد وقع التّضييق في دائرة المنتفعين بالتّعويضات بما أقصى غالبيّة الضّحايا من حقّهم فيها بحجّة أنّ ميزانية الدّولة لا يمكنها أن تتحمّل صرف أربعة آلاف دولار لثلثي الشعب من السّود والملوّنين…لذلك سرعان ما حُصرت التّعويضات في الحالات التي عُرضت الجرائم المرتكبة في حقّها أمام لجنة جبر الضّرر، وهي في حدود ألفي حالة من جملة 30 مليون ضحيّة محتملة…كما وقع التّضييق في دائرة المحاسبة والتّتبع التي كانت تشمل كلّ من لم يعترف أو لم يتقدّم بطلب عفو: فقد أجازت لجنة الحقيقة والمصالحة عرض (العفو من أجل الحقيقة) الذي يُعفي المجرمين المعترفين من المحاسبة والتّتبع والتّعويض، ثمّ سرعان ما توقّفت الملاحقة القضائيّة وأُقرّ عفو عامّ شمل جميع مرتكبي الجرائم حتّى الذين لم يعترفوا ولم يتقدّموا بمجرّد طلب عفو…في عهد الرّئيس (ثابو مبيكي) وتحت ضغط الشّارع، انعقدت محاكمات سرّية صوريّة بغياب الضّحايا السّود ودون أي تمثيل لهم برّأت ذمّة البقيّة الباقية من المجرمين البيض…وحتّى الحالات التي أُوصِي بملاحقتها قضائيًّا لم تمثل ولا حالة واحدة منها أمام المحاكم إلى حدود كتابة هذه الأسطر…أمّا فيما يتعلّق بمحاسبة الشّركات الدوليّة، فقد قامت منظّمة لضحايا الميز العنصري سنة 2002 بمقاضاة 23 شركة متعدّدة الجنسيّات (فورد ـ جنرال موتورز ـ IBM…) أمام محكمة في الولايات المتّحدة للتعويض المادّي عن دورها في انتهاكات ضدّ السّود والملوّنين خلال فترة الأبارتايد إلاّ أن الشركات استطاعت إسقاط القضيّة بحجّة أنّ (القانون العرفي الدّولي لا ينصّ على مسؤوليّة الشركة في الانتهاكات لحقوق الإنسان)… وبالمحصّلة لم يقبض ضحايا الميز العنصري غير الرّياح والأوهام: فلا جبر ولا تعويض ولا إعادة اعتبار، وفي المقابل بُرّئت ساحة المجرمين البيض وازداد تمكّنهم من مقدّرات البلاد ومراكز القرار فيها…

وبالمحصّلة…

إنّ الاعتذار كآليّة سياسية ما هو في الواقع إلاّ استثمار (اقتصادي ـ سياسي ـ ثقافي ـ أمني…) غير ملزم، يُضرب به عرض الحائط إذا انتفت موجباته، فهو شكل جديد مهذّب من أشكال ديمومة الهيمنة والاستغلال والاستعمار أملته المستجدّات السياسيّة، وانحناءة بسيطة لا بدّ منها ولا بأس بها حتّى تمرّ العاصفة بسلام…وإنّ ما يجب التّأكيد عليه هو أنّ الجرائم الوحشيّة التي اقترفتها الدّول الرّأسمالية في مستعمراتها ليست أعمالاً فرديّة أو سلوكيّات معزولة عفويّة أو تجاوزات ظرفيّة، بل هي ممارسات من صميم الاستعمار مُلازمة له مُتماهية معهُ لا يتحقّق إلاّ بها حيثما وقع وأينما كان، حتّى وإن لم يُلاق مقاومة: فلا وجود لاستعمار نظيف وآخر قذر…وإنّ الاستعمار بشكله البشع ذاك ليس طفرة في تاريخ الأمم الأوروبيّة أو نزوة سياسيّة لملك أو امبراطور، ولا هو معالجة آنيّة مرتبطة بحسابات أو وضعيّات معيّنة، بل هو سليل العقيدة الرّأسمالية نفسها منبثق رأسًا عنها وذلك من سبيلين اثنتين: الأولى أن الاستعمار هو طريقة المبدأ الرّأسمالي في الانتشار أي الكيفيّة الدّائمية الثابتة في حمل فكرته وتطبيقها على الشّعوب…أمّا السبيل الثّانية فهي أن الاستعمار منبثق عن فكرة حرّية التملّك المقدّسة في الدّيمقراطية: هذه الفكرة التي أنتجت المبدأ الرّأسمالي في الاقتصاد هي التي كرّست استعمار الشعوب لأنّها تعني إباحة أن يمتلك الإنسان الثروة وينمّيها بأيّة وسيلة أو كيفية بما في ذلك الاحتلال والتّسلط والسّلب والسّرقة والاحتكار والقتل والرّبا والغشّ…وهل الاستعمار إلاّ جماع هذه الممارسات…إن الاعتذار الوحيد الحقيقي والجدّي والعملي والكفيل بتعويض شعب جنوب إفريقيا وكلّ الشعوب التي اكتوت بنار الاستعمار والعنصريّة هو تجفيف منابعها العقديّة بالتّخلص من النّظام الرّأسمالي والتّبرؤ من العقيدة الرّأسمالية والسّعي الجدّي لاستئناف الحياة الإسلاميّة بإقامة دولة الخلافة، دولة الحق والعدل والرّعاية والكفاية والمساواة…فهل نحن فاعلون..؟؟

بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This