يزداد الضغط العالي -ان جاز القول- على التونسيين من قبل السلطة الموكلة بمواصلة سير العمل بنظام الحكم الرأسمالي الديمقراطي المغتصب لسلطانهم جهارا. ضغط يتأتى من عدة جبهات تستند إليها قوى الاستعمار التشريعي والتنفيذي على حد السواء, وأهمها الإعلام ووسائله المنخرطة في أدوار الدمغجة والتغييب الذهني والقصف المتواصل لعقول التونسيين لإبقائهم حبيسي أوهام الحياة العلمانية التي تسلبهم كل إرادة واستقلال وتشد أنظارهم نحو شخوص ومترشحين لا أحد منهم يعارض الحكم بقوانين أحلّت في ديارهم الجوع والفاقة وأوقعت بينهم الخوف من كل ما يجهلونه في يومهم قبل الغد.
“تدويل إعلامي” لطمأنة المسؤول الكبير
المناظرة التلفزية, ولدت الفكرة بمبادرة من صحفيي وإدارة التلفزة الوطنية التونسية ولقيت استحسانا واسعا من الأوساط الإعلامية وعلى منصّات التواصل الاجتماعي، خاصّة منها المتابعة للتجاذبات السياسية التي فرضها اقتراب الموعد الانتخابي المقرر في 15 من الشهر الحالي.
حيث جمعت هذه المناظرات 11 قناة تلفزية تونسية وأكثر من 20 إذاعة في بث موحد. وبمشاركة 24 مترشح من جملة 26 مترشح باعتبار عدم مشاركة كل من المترشحين نبيل القروي وسليم الرياحي باعتبار أن احدهما في السجن والآخر في الخارج.
إذ تم التركيز على ايصال صورة الحدث في أجمل حلة لإخراج العملية الانتخابية برمتها في قالب الشفافية والنزاهة القصوى والأهم للإيصال رسالة إلى المشرف العام أو المقيم العام أو المسؤول الكبير مثلما يحلو لكل فئة تسميته, بأن تونس تسير على الطريق الموصل الى قرطاج الأوروبية, والمعبد بنظام الديمقراطية الرأسمالية التي تحتضن مهندسي سير منظومة الحكم على جانبي الطريق وفي قلب القصر ذاته, وأن الشعب لا يعارض ذلك ويفتخر به مثلما كان على عهد المخلوع ومن خلفه من وكلاء انجلترا في حكم تونس وإرضاء المستعمر بصدّ أهلها عن التعبير عن رغبتهم في التحول إلى نظام الحكم بالإسلام.
وبذلك تكون تونس محطّا لأنظار دول الجوار التي أرّق الوضع فيها مضاجع المستعمر البريطاني وأرهقته صحوة المسلمين هناك وتسارع الأحداث وازدياد حالة الرفض لدى عامة الناس لحكامهم الوكلاء, ولم يجد ساستها أنفاسا لوضع خطة تركيع لشعوبها. فكان لزاما على المستعمر أن يسعى للنجاح في إعادة تونس وشعبها إلى الهدوء وحالة الخضوع التام وإخراج وضعها السياسي في سيناريو النجاح السياسي الذي تحقق بفضل الديمقراطية ونظامها, حتى يتسنى له الإهتمام بالوضع في ليبيا والجزائر والعمل على تركيع المسلمين فيهما للقبول بإنجاز انتخابات في إطار المنظومة الديمقراطية والتوقف عن رفع الشعارات المعادية لأوروبا ونظامها الرأسمالي.
هذا من جهة, ومن جهة أخرى لتتمكن أوروبا وعلى رأسها بريطانيا من صدّ محاولات أمريكا لافتكاك مستعمراتها في شمال افريقيا وازاحتها عن مجال السيطرة السياسية داخل دوائر الحكم في تونس وما جاورها من بلاد النفوذ الأوروبي.
هذا ظنّهم وهكذا فعلهم, وسيخيب بإذن الله, لأن من سنن الله في خلقه التغيير وغلبة الحق, وقد صرنا نراهما اليوم راي العين ونتحسس أثرهما في كامل المعمورة.
التأثير في الرأي العام وصناعته
وفي هذا السياق تحديدا يلاحظ المتابع للمشهد اليوم كمّ الاستغلال الرهيب للمنابر الإعلامية لتوجيه الرأي العام نحو التركيز في التفكير في المترشحين للانتخابات وصرف الأذهان عن التفكير والتدبّر في حقيقة المنظومة التي سيحتكم اليها المرشحون وما ستوصلهم إليه الانتخابات من اضفاء شرعية لمن سيتعهد بمواصلة مسيرة حكام زكتهم فرنسا وانجلترا, من بورقيبة مرورا بالمخلوع بن علي إلى الباجي قايد السبسي… مساع حثيثة وجهود مكشوفة لجعل الانتخابات في تونس مجرد عملية تقنية ترسم فيها الادوار مسبقا ويتحرك في مربعها الفارغ المترشحون والناخبون والراصدون والقضاة والاعلاميون وفق ارادة “المسؤول الكبير” وحسب معايير تسويقية يراد من ورائها الترويج لصورة ناجحة للنظام البشع الذي شاه وجهه أمام جميع التونسيين بعد ما تسبب فيه من كوارث وانعدام لكل مقومات العيش الكريم في هذا البلد السليب من كل مقومات الكرامة والأمان.
وهي عملية تلمييع وغُسل لنظام مازال يحتضر ويوشك على التداعي والسقوط النهائي أمام عزوف الشعب على اعطاء التفويض مرة أخرى لمن سمسر بقضاياه وتاجر بها في محافل المزايدات الرأسمالية التي سلبته إرادته وسلطته على أرضه وعرضه وقوت أهله. على بهدف إيهام الناس بأنها تمكنهم من اختيار من يحكمهم بحرية وشفافية.
استحقاق مغشوش
احتى لو سلّمنا جدلا أن هذه المناظرة التلفزية تمكنت من تحقيق التكافؤ في فرص الظهور الاعلامي للمترشحين وتمكينهم من الاجابة على الأسئلة الاعلامية (ليست أسئلة الشارع والمواطنين قطعا) دون أن يدخل المترشح مع الصحفي في محاججة مثل ما تعودنا عليه في القنوات الاعلامية الخاصة, وحتى لو فرضنا جدلا أن التناظر تم بين المترشحين في كنف الحيادية الكاملة من قبل الصحفيين, فإن الأمر لم يخرج عن الخط المرسوم مسبقا من قبل من أصر على تخيير الناس بين الأشخاص دون الأنظمة والبرامج, والسؤال عنها هل هي موجدة حقا أم لا.
فجميع المترشحين أعلنوا رفضهم لتغيير نظام الحكم والقبول بتطبيق ما جاء في دستور سنة 2014 الذي وضع على أعين استخبارات المستعمر الأوروبي ووفق ما يضمن مصالحه الاستراتيجية في تونس.
فأهمية المناظرات التلفزية تكمن في كيفية توظيفها, فالمطلوب عند “أصحاب الشأن الديمقراطي” أن لا تخاطب عقول المشاهدين بل عواطفهم, وأن لا تثير شيئا من القضايا الكبرى التي ذات العلاقة المباشرة بعقيدة التونسيين ومصيرهم بوصفهم جزء من أمة اسلامية.
وقد اقتصرت المناظرة على الإجابة على أسئلة تمحورت جميعها حول وعود يحفظ أغلب التونسيين كلماتها قبل قائلها.. وعن مواضيع لا علاقة لها بأسئلة المرحلة, مثل فتح ملف الثروات المنهوبة والحكم بنظام الخلافة, ومحاسبة من يتخابرون مع سفارات المستعمر الغربي… ولم يتم التطرق إلى موضوع نظام الحكم الذي يرضي الشعب حتى يقتنع بأحد المرشحين الذي سيعلن تبنيه وتطبيق قوانينه وأحكامه عوضا عن تلك التي طبقت وجلبت لهم الخراب والأسى في شتى ميادين الحياة.
وبهذا يمكننا القول ان المناظرة أتمت المطلوب منها لدى المشرفين على سير العملية الانتخابية على المستوى الخارجي من سفراء ومراقبين قائمين على سياسة البلاد, حيث تسنى لهم – منظمو المناظرة- تبييض صور بعض المرشحين للانتخابات الرئاسية المنبوذين بشدة من قبل عموم الناس, وإضفاء صورة الحياد والنزاهة على العملية الانتخابية برمتها.
اعلام في صفّ المنظومة
وللأسف لم يكن تجاوب الاعلاميين مع هذه التمثيلية السياسية بالقدر الكافي والواجب من الوعي بمخاطر هته المحطّة التي يراهن عليها الغرب الاستعماري وعلى رأسه بريطانيا وفرنسا.. ولم تبدر أي حركات للرفض أو الامتناع عن التغطية من قبل الصحافة وأهلها الذين زادت أوضاعهم الهشة في هشاشة أدوارهم وجعلتهم أكثر عرضة للتسليم بأجندات أصحاب نفوذ المال والسياسة الارتهانية.
إذا, وعودا على ما بدأنا, نقول, إن استعمال الإعلام للترويج لنظام الغرب بالمناظرة أو بمغالطة الناس وتحويل فكرهم عن صلاحيات الرئيس دون صلاحيات المشرّع, وحقيقة التشريعات التي سيحتكم إليها, لن يغير من حقيقة فشل الحكم في ظل النظام الرأسمالي الديمقراطي وارتهان البلاد لدى دوائر الاستعمار الحريصة على تكريسه, كما لن يبدّل خيبة أمل الناس في سياسيين أثبتوا ولاءهم لمن يعادي تونس وأهلها. ولن يكون حديث الاعلام والاعلاميين في تونس عن النزاهة والحياد والاستقلالية والمهنية.. ذا واقع وحقيقة يصدّقها المتلقي ما دام الإعلام منصاعا لخدمة منظومة الحكم وإطارها الضيق المتركز في معاداة الاسلام وكل ما فيه من نظم حكم ورعاية, ومادام الصحفيون يصرون على إيصال الصوت ذات الاتجاه المعادي لعامة الناس, ويصارح بخدمته لمن نهب ثرواتهم وتسبب في كل مآسيهم.