ظهر الفساد في برّ تونس الخضراء وبحرها بما قد يحوّلها إلى صحراء جرداء قاحلة بوادٍ غير ذي زرع، والمفارقة أنّ ذلك ليس بفعل العوامل المناخيّة ـ فالله تعالى سقاها ماء غدقًا وقدّر فيها أقواتها سواءً للسائلين ـ ولكن بما كسبت أيدي المجرمين والعملاء من أبنائها، وكذلك نبات التّبعيّة والارتهان والاستعمار لا يخرج إلاّ نكدًا.. فالبلاد سرى في مفاصلها الفساد بشكل مفزع وخطير لم يستثن حتّى القطاعات الحيويّة على غرار الطبّ والأدوية والمياه والموادّ الغذائيّة.. وتجّار الموت يُفسدون في الأرض ويكدّسون الثروات على حساب صحّة التّونسيّ وقوته بل وحياته في ظلّ استقالة كليّة من الدّولة عن رعاية الشّؤون وغياب الإرادة الحقيقيّة في مقاومة الظّاهرة.. ولوبيّات الفساد المتغلغلة في تلافيف الاقتصاد والمتنفّذة في الأوساط الحزبيّة والنيابيّة والحكوميّة والأمنيّة ترتع فوق القانون دون وازع من دين أو أخلاق أو قيم.. بحيث وجد التونسي نفسه بين مطرقة مافيا الموت التي تتفنّن في مصّ دمائه وتسميم بدنه، وسندان بارونات التهريب الذين يُغرقون البلاد بالبضائع المسرطنة والتّالفة في لوحة سوداويّة قاتمة طالت (المواطن) في آخر حصونه التي تمترس خلفها ورضي في سبيلها بالرّكون إلى الذين ظلموا ألا وهي مائدته وقفّته وصحّته وقوت عياله..
“فنّ” الغشّ
والغشّ في تونس يرقى إلى مستوى الفنّ، ومن الفنّ ما قتل: لوالب قلبيّة تالفة ـ أدويّة جنيسة غير مطابقة للأصل ـ بنج قاتل ـ مياه أودية وآبار معلّبة في قوارير أشهر الماركات ـ أطنان من الموادّ المعلّبة منتهية الصّلاحية ـ كبدة مستوردة وبيض وخضر وموالح فاسدة ـ حلويّات وأجبان ومرطّبات وشكلاطة غير صالحة للاستهلاك ـ 30 ألف رأس بين حمير وبغال تعدم سنويًّا وتروّج في شكل مرقاز ولحم مفروم وشرائح شاورما ـ دواجن جيفة تنظّف بمادّة الجفّال لتغيير لونها وإزالة رائحتها الكريهة ـ لحوم حمراء وبيضاء متعفّنة تعقّم بمادّة الصّودا السّامة كي تبدو طازجة..والقائمة طويلة مقزّزة محفّزة للقيء والغثيان تعكس منتهى الاستهتار والاستهانة بأرواح النّاس.. وما خفي كان أعظم (قطاطس ـ غرنوق..)..
أمّا آخر قلاع (الزّواولة) التي تهاوت أمام ماكنة الغشّ والفساد المتوحّشة فهي (الخبزة) ممثّلةً في مادّتها الأوليّة (الحبوب) ودونكم شحنة القمح المشعّ المسرطن التي دخلت البلاد منذ أربعة أشهر واستوت على موائدنا وسمّمت أبداننا بإشعاعاتها المميتة..كلّ هذا الإجرام يحدث بأعين السّلطة ووحيها ورعايتها وإشرافها بما يجعلها تتأرجح بإزاء منظوريها بين ثلاثة من فصول المجلّة الجزائيّة: إمّا القتل العمد مع سبق الإضمار والترصّد أو محاولة القتل أو الإهمال الناجم عنه الموت..وفي كلّ الأحوال فهي تتحمّل كامل المسؤوليّة القانونيّة عن هذه المجزرة المفتوحة ضدّ شعبها..
حيثيّات فظيعة
عاشت تونس هذه الأيّام على وقع فضيحة دولة من العيار الثّقيل: فقد تداول ناشطون على صفحات التّواصل الاجتماعي تدوينات ومقاطع فيديو تفضح جريمة إدخال شحنة من القمح الأوكراني الملوّث بالإشعاعات النّوويّة تقدّر ب 250 طنًّا عبر ميناء سوسة.. وأثبتت التحرّيات أنّ السّفينة (جورج بورقاز) كانت في الأصل متّجهة إلى تركيا حيث وصلتها يوم 10 أوت 2019، إلاّ أنّ السّلطات التّركية رفضت قبول الشّحنة، لذلك حوّلت سفينة الموت هذه وجهتها إلى البلد المستباح تونس وأرست بميناء سوسة يوم 25 أوت.. ولأنّنا نورّد القمح (بالثّقة) دون فحص أو تثبّت تمامًا كما نصدّر النّفط (بالهمّة) دون عدّاد، فقد تمكّنت الباخرة من إفراغ حمولتها المسمومة لتُروّج في السّوق التونسية وتمثل على موائد التّونسيّين.. وللتذكير فإنّه يتمّ توريد ما بين 10 إلى 13مليون قنطار سنويًّا من القمح اللّيّن، وتُورّد هذه الكميّات الكبيرة من روسيا وأوكرانيا خاصّةً (أكثر من 80%) دون الأسواق العالميّة الكبرى كالولايات المتّحدة وكندا وفرنسا.. والسّبب وراء ذلك أنّ حقول الحبوب في أوروبّا الشّرقية عمومًا ملوّثة بالإشعاعات النّوويّة منذ (1986) تاريخ انفجار مفاعل تشيرنوبل، لذلك فهي تبيع سمومها بأسعار تفاضليّة (191 دولارا للقنطار) أرخص بكثير من الأسعار العالميّة.. والحكاية ليست جديدة، فقد بدأت بمجيء المقبور بن علي سنة 1987 مع باخرة (براود أوف تكساس) ما يعني أن الشعب التونسي منذ ذلك التاريخ يستهلك الموادّ الملوّثة بالإشعاعات النّووية في الخبز والمعجّنات بأنواعها والحلويّات المختلفة التي تستعمل فيها مادّة الفارينة وهو المسبّب الأوّل للسرطان في تونس (40 حالة جديدة يوميًّا) عدا المضارّ الصحيّة الأخرى، ودونك مستشفى صالح عزيّز للتأكّد من حجم الكارثة والمجزرة التي يتعرّض لها الشّعب التونسي..
رصد الظّاهرة
والسّؤال الذي يطرح في هذا الصّدد هو كيف وصلت هذه الشّحنة المشعّة إلى تونس وكيف أُفرغت في الميناء وكيف وجدت طريقها إلى موائدنا لتسمّم أجسامنا..؟؟ فتوريد الموادّ الغذائيّة وشحنها محاط ـ نظريًّا وإداريًّا وقانونيًّا ـ بترسانة هائلة من إجراءات الصحّة والسّلامة والتّراتيب الصّارمة العصيّة على الاختراق، وتتداخل فيها جميع سلطات الإشراف (وزارة الفلاحة ـ ديوان الحبوب ـ وزارة الصحّة ـ الدّيوانة)..هذه التّراتيب تنطلق من البلد المنشأ حيث تخضع الحمولة لفحص شامل يثبت مطابقتها للمواصفات العالميّة، فلا تنطلق الحمولة إلاّ بعد أن تُسند إليها شهادات رسميّة من طرف وزارة الفلاحة هناك (شهادة المنشأة ـ شهادة الجودة ـ شهادة الصحّة ـ شهادة نظافة العنابر ـ شهادة وزن الشحنة ـ شهادة التّحليل والمراقبة ـ شهادة الخلوّ من الفطريّات ـ شهادة الخلوّ من الإشعاعات)..وفي إطار المراقبة الذّاتيّة يقوم الدّيوان بتعيين شركة عالميّة للتثبّت من صحّة بيانات المنشأ في ميناء الشّحن..نفس هذه العمليّة المطوّلة المعقّدة تعاد في تونس عند وصول الشّحنة من طرف ديوان الحبوب بالاشتراك هذه المرّة مع سلطات الإشراف كلٌّ من موقعه..ولا يتمّ تفريغ الشّحنة إلاّ بعد التثبّت الدّقيق وإمضاء عوني المراقبة معًا، كما ولا يمكن للسفينة مغادرة الميناء إلاّ بعد تسليمها شهادة مغادرة ممضاة من طرف العونين معًا، ولا تستطيع السفينة أن ترسُو في أي ميناء آخر دون تلك الشّهادة التي تثبت أنّها سلّمت شحنة سليمة..فهل يمكن عمليًّا لأي شحنة مشبوهة أن تخترق هذا الكمّ الهائل من التّراتيب والإجراءات..؟؟ وعلى فرض حصول ذلك هل يمكن أن يتمّ بمعزل عن الدّولة وسلط الإشراف..؟؟
تجارة الموت
وللتذكير فإنّ تجارة الحبوب هي في الأصل حكر على الدّولة ممثّلةً في الدّيوان التونسي للحبوب، إلاّ أنّ هناك استثناءات للمورّدين الخواصّ في إطار القبول المؤقّت، وهي شحنات موجّهة (دائمًا نظريًّا) للتصنيع والتّصدير كليًّا، وهذا ما ينطبق على الشّحنة المشعّة موضوع حديثنا..وصلت هذه الشحنة إلى ميناء سوسة يوم 25 أوت 2019، ولإفراغها طلبوا من متفقّدة مركز المراقبة الصحيّة للحدود السيّدة (نوال محمودي) تمكينهم من شهادة دخول تثبت أنّها قامت بالمراقبة الصحيّة للباخرة وحمولتها لكنّها رفضت المشاركة في الجريمة.. يوم 27 أوت وبعد يومين من رسوّها وقع إفراغها رغم أنّ ذلك يستوجب إمضاءين ورغم أنّ القمح رائحته كريهة جدًّا ولونه أسود ومليء بالسّوس..وكلّ ما في الأمر أن زميل السيّدة نوال المدعو (مجدي بوشيحة) وهو متفقّد من ذوي الذّمم الأستيكيّة قد أمضى وأشّر على نزول القمح: هذا الأخير ورغم أنّ مرتّبه لا يتجاوز 1500 دينار إلاّ أنّه يمتلك طاقم سيّارات بمئات الملايين وعدّة شقق ومنازل للكراء بشط مريم كما يمتلك فيلا (تفتّق) بقصيبة سوسة بما يشي بارتشائه بامتياز.. بعد إفراغ شحنة الموت طلبوا من المتفقّدة نوال المحمودي إمضاء شهادة المغادرة للسفينة إلاّ أنّها رفضت مجدّدًا واشترطت شهادة حفظ الصحّة التي تثبت سلامة الشّحنة فبقيت السّفينة محتجزة في الميناء يومي 28 و29 أوت إلى أن تدخّل نفس المتفقّد (مجدي بوشيحة) وأمضي نيابةً عن زميلته وسمح لسفينة الموت بمغادرة البلاد.. وبالرجوع إلى بيانات مستندات الشّحن والتصريح والتسريح الدّيواني يتّضح تورّط شركات عجين تونسيّة على غرار (الوردة البيضاء) و(السّنبلة الذهبيّة) في توريد هذه الشحنة القاتلة ،وقد انطلقت سلسلة هذه العمليّات المشبوهة منذ سنة 2014 حيث تقوم هذه الشركات بتوريد مئات الشّحنات الفاسدة المشعّة من أوكرانيا لانخفاض سعرها متعمّدةً تغيير هويّة البلد المنشأ..ثمّ تقوم بتصنيع وتسويق جزء كبير من الشّحنة، وبعد ضمان الثّمن المدفوع تعيّن خبراء لإثبات أن الشحنة غير صالحة للاستهلاك وتطالب بالتعويضات، وبذلك تحصل على أرباح مضاعفة..
حاميها حراميها
إنّ هذه الحيثيّات الفظيعة تصنّف بامتياز كجريمة دولة: فهي لا يمكن أن تحصل بمجرّد رشوة عون ديوانة أو متفقّد صحّة ـ فتلك هي الحلقة الأخيرة والأضعف من السلسلة ـ لأنّ اختراق تلك الترسانة المعقّدة من الإجراءات الصّارمة على مستوى بلد المنشأ ثمّ بلد القبول لا يتأتّى عمليًّا إلاّ بإشراف ورعاية الدّولتين عبر اتّفاقيّات خيانيّة استعماريّة مجحفة تتخلّص من خلالها دول المنشأ من الفائض والتّالف من منتجاتها وتتحوّل خلالها دول القبول من راعي شؤون إلى (عشماوي) وتاجر موت يسمّم شعبه ويعرّضه للإبادة مقابل عمولة ماديّة..فالمطلوب رأسماليًّا واستعماريًّا هو تدمير المنظومات الفلاحيّة المحليّة والقضاء على الفلاحة الأصليّة للمستعمرات لإفساح المجال لفلاحة الأسياد من البذور والمشاتل والأدوية إلى الآلات والمنتجات الفلاحيّة لاسيّما إذا كانت منخفضة الجودة أو تالفة أو منتهية الصلوحيّة أو مشعّة ومسرطنة.. فعلى المستعمرات أن تكون مستهلكة فحسب أمّا الإنتاج فهو حكر على العالم الحرّ، وقد جيء بسيّئ الذّكر سمير بالطيّب وزيرًا للفلاحة تحديدًا لإنجاز هذه المهمّة القذرة وقد أدّى واجبه على أحسن وجه: ففي عهده السعيد دُمّرت كلّ المنظومات الفلاحيّة في تونس (حليب ـ حبوب ـ دواجن ـ صيد بحري ـ لحوم حمراء ـ قوارص ـ زياتين..) ودخلت تجارة الموت سرعتها القصوى بمنتهى الاستهانة والاستخفاف بالذّات البشريّة..
إضمار وترصّد
وهذا ليس من قبيل المزايدة والتهيّؤات والإغراق في نظريّة المؤامرة: فقد كان واضحًا أنّ الكافر المستعمر يتتبّع صابة الحبوب في تونس، وما أن اكتشف أنّها قياسيّة تهدّد هامش مبيعاته وتوصدُ السوق المحليّة أمام سمومه حتّى عزم على وأدها في مهدها عبر إتلاف المحاصيل، وهذا ما حصل طيلة شهري جوان وجويلية 2019 حيث تعمّدت عصابات إجراميّة إضرام النّار وحرق مئات الهكتارات من الحبوب في مناطق الشّمال الغربي، وكان واضحًا أنّها حرائق مفتعلة بفعل فاعل لا يريد للصابة أن تصل بسلام إلى مخازنها..ولمّا كشف القاضي الفاضل (المكّي بن عمّار) هذا الملفّ وفضح الأطراف النّافذة المتورّطة فيه أُقيل من منصبه واتُّهم بالجنون وأودع مستشفى الرّازي بإذن إيواء وجوبي من النيابة العموميّة في محاولة لإسكاته، وقد يُصاب (بسكتة قلبيّة مفاجئة) كما حصل لمن تجرّأ وهدّد بكشف المستور (فوزي بن مراد ـ العميد عبد الفتّاح عمر ـ طارق المكّي..) أمّا الجزء الذي نجا من هذه المحرقة الاستعماريّة وحُصد واستحال حبوبًا ذهبيّةً فقد تعمّدوا إهماله وإتلافه: فادّعوا ابتداءً أن لا طاقة لهم بتخزينه وتركوه مكدّسًا خارج مراكز تجميع الحبوب (ببوعرادة وحدها جبال من القمح على امتداد كيلومترين) وهكذا أُلقي أكثر من مليون قنطار من صابة القمح المحليّة في العراء مغطّى بالأتربة والأوساخ إلى أن داهمته أمطار الخريف (والخليف عليه) كلّ ذلك من أجل أن يفسحوا المجال لاستيراد قموح الاستعمار المشعّة بالعملة الصعبة ،فهل يوجد أقذر من هؤلاء الحكّام الذين ابتُلينا بهم..؟؟