تونس والفراغ الشامل

تونس والفراغ الشامل

تعيش تونس فراغا على جميع الأصعدة السياسية والأمنية والإستراتيجية، فبالرغم من وجود أجهزة الحكم المختلفة لكنها تكاد تكون غائبة، إذ ليس هناك قدرة على العمل وليس هناك قدرة على الثبات، فالشلل  مسيطر على الساحة والعجز يتفاقم يوما بعد يوم.

الفراغ السياسي

أما من ناحية سياسية فإن الدولة في مجموعها غير مستقرة وغير متناسقة، فخلال تسع سنوات من الثورة لم تعرف تونس استقرارا على مستوى أجهزة الحكم التنفيذية ليتواصل الارتفاع الحاصل في عدد الحكومات وتركيبتها ليبلغ أكثر من 318 وزيرا في 12 حكومة تراوحت بين الحكومة الانتقالية والحزبية والتكنوقراط. وقد فشلت كل هذه الحكومات في تحقيق أهداف الثورة، العامل الأساسي الذي أدى إلى سقوطها أمام ضغط  الشارع الذي لم يعد يصبر على عدم قدرة الدولة على الرعاية وتوفير العيش الكريم لمنظوريها.

وهناك عدم التناسق في الفكر والعمل بين أجهزة الدولة الواحدة، فرئيس الدولة قيس سعيد يريد نظاما رئاسيا، في حين يتمسك رئيس البرلمان راشد الغنوشي بالنظام البرلماني، فينتج عنه عدم انسجام في العمل، برز جليا في تشكيل الحكومة الأعقد منذ الثورة، والتي عصفت بها الخلافات الحزبية والارتباطات الخارجية.

كما يوجد عدم انسجام أيضا بين الفكر العلماني المطبق على الناس وبين ما يحمله أهل الزيتونة والقيروان في عقولهم من عقيدة إسلامية وأحكام شرعية، كفرض اتفاقية سيداو في الحياة الإجتماعية وفرض المفاهيم الغربية في مواد التدريس، كما يوجد ازدواجية معايير ومكاييل في التعامل مع الناس، بين الأغنياء والفقراء، وبين الجهات الداخلية وبقية الجهات أو بين طبقة المقربين من الحكم وعوام الناس..

فنتج عن عدم الاستقرار وعدم التناسق والانسجام بين أجهزة الدولة فراغ سياسي، يزداد يوما بعد يوم، أي أصبح الشعور بعدم وجود الدولة يتعمق في أذهان الناس، وأصبح المجال متاحا لقوى أخرى لملأ هذا الفراغ المتعاظم.

الفراغ الأمني والعسكري

أما على المستوى الأمني والعسكري، فإن قوى الدولة الأمنية والعسكرية غير كافية لحفظ الأمن الداخلي، والدفاع عن البلد ضد العدوان الخارجي، فهي لا تستطيع حماية مواطنيها من الاعتداء على أموالهم وأنفسهم، -والأمثلة هذه الايام كثيرة- كما لا تستطيع حمايتهم من الغزو الخارجي، وذلك لسببين:

أحدهما عدم وجود انسجام حقيقي بين الوسط السياسي المتحكّم في البلد وبين أفراد الأمن والجيش، بل تجد الوسط السياسي يوالي الدول الغربية ويعمل ضد مصلحة البلد، فيعسكر مناطق الثروات في الجنوب التونسي ليتيح للشركات الغربية نهب الثروات ويفتح أرضه وسماءه للأعداء كما حصل مع القوات الأمريكية التي دنست تراب البلاد بدعوى تدريب الجيش التونسي لتأمين الحدود مع ليبيا، ولكن في حقيقتها استغلت أرضنا للتتجسس على دول الجوار والاشقاء، وهذا كله باتفاقية آثمة جعلت من تونس قاعدة متقدمة لحلف الناتو في شمال إفريقيا، أو كاستخدام أبنائنا من الأمن والجيش لحماية  جنود كيان يهود أثناء زيارتهم لكنيس الغريبة، وذلك دون علمهم وفي غفلة منهم، وفي نفس الوقت تجد أنّ الثقافة التي يتدرب عليها الأمن والجيش هي ثقافة مغايرة تقول: بخدمة الوطن والمواطن وحماية الحدود والأرض من أي اعتداء وبالمحافظة على سيادة الوطن ومصالح البلد، وبأن التطبيع خيانة عظمى.

أما السبب الثاني الذي حصل فيه الفراغ فهو عدم كفاية القوة الأمنية والعسكرية اللازمة، سواء من ناحية المعدات أو من ناحية  التدريب، فلا توفر الدولة للأجهزة العسكرية والأمنية ما يلزمهم من معدات لحماية الأرض والعرض، فحصل بذلك فراغ أمني وعسكري، مما أنتج شللا في التعامل مع الأحداث البسيطة كعمليات السطو على أموال الناس أو التهديدات الخطيرة التي تحدق بالبلاد كوجود قوات روسية على حدودنا مع ليبيا وما يمكن أن تجلبه هذه القوات من خراب ودمار على أهل المنطقة عموما وأهل تونس خصوصا، مما عمق الفراغ، فأصبحت القوى الأمنية والعسكرية كأنها غير موجودة.

وفي هذه الحالة يصبح الخوف من استيلاء قوة أجنبية على البلد أمراً متوقعاً، وعادة تكون هذه القوى تطمع في بلادنا، ولهذا تُبادر أقواها إلى الاستيلاء على قرارها وسيادتها، وهذا ما يحصل في بلادنا للأسف الشديد.

الفراغ الاستراتيجي

أما على المستوى الاستراتيجي، فإنّ تونس لا يوجد فيها استقرار داخلي، ولا استقرار أمني بسبب عدم وجود تجانس أصلا بين الوسط السياسي المتحكم وعامة الشعب، فالقيادة السياسية في حالة عداء دائم مع الشعب، وخاصة مع القوى الإسلامية المخلصة والمؤثرة في البلد، وازداد هذا الفراغ الاستراتيجي منذ انطلاق شرارة الثورة في تونس وامتدت إلى باقي البلاد العربية، ومنذ ذلك الحين والشعب التونسي لا يكاد يهدأ، فالاحتجاجات متواصلة، تهدأ أحيانا وتبلغ الذروة أحيانا أخرى، بسبب ازدياد الفقر والحاجة التي تجعل من الناس قنابل موقوتة تنفجر بين الفينة والأخرى، كما أن كثرة الإشاعات تُثير قلق الناس على أرواحهم وعلى قوتهم، كما تثير القلق بين أصحاب الأعمال وبين السياسيين والحكام.

هذا بالإضافة إلى وجود أعمال تُخِلُّ بالأمن كالاغتيالات السياسية التي ضربت البلاد وعمليات التفجير التي وقعت في قلب العاصمة والأعمال المادية التي تستهدف أجهزة الدولة بشكل متواصل وفي أنحاء متعددة، ومما زاد الطين بلة وجود الصراعات اليومية بين الأحزاب والتيارات الفكرية المختلفة، التي شلت الحياة السياسية، فنشأ عن كل ذلك فراغ ظاهر, أي أصبحت الدولة وكأنها غير موجودة.

القوى الغربية تملأ الفراغ إلى حين

وهذا الفراغ بهذه المعاني الثلاثة سلاح قاطع يؤثر تأثيراً فعالاً في استقرار الدولة وقد ينذر بسقوطها واندثارها، والدول الكبرى تقوم بمحاولة إيجاده في كل بلد تريد إخضاعه لها والسيطرة عليه، وهو ما تعمل عليه الدول الغربية في تونس، خاصة بعد انطلاق شرارة الثورة التي تُعدّ تمردا حقيقيا على الوضع الذي فرضه الغرب في بلادنا زمن بوقيبة وبن علي.

ولذلك تسعى القوى الغربية إلى تعميق الفراغ حتى تتمكن من ملئه بالشكل الذي يؤمن مصالحها ويؤبد سيطرتها، وإنّ تدخل السفراء الأجانب في الحياة السياسية، إلى درجة جعل سيادة البلاد وقرارها مرهونا بيد القوى الأجنبية، يؤكد حالة الفراغ ويكشف المستفيدين منه، وتبرز الأعمال السياسية للقوى الغربية في ملئ الفراغ في ما يسمى بالإصلاحات الكبرى التي فرضها صندوق النقد الدولي على تونس، كما يظهر ذلك في وجود أجانب على رأس لجنة القيادة في البنك المركزي الذي يمثل السلطة النقدية للبلاد، حيث  يقودها أجانب أقل ما يقال فيهم أنهم يعملون على تأمين مصالح دولهم. وهذه اللجنة التي ترسم السياسات الاقتصادية للبلاد تظم السفير الفرنسي بتونس، والإدارة العامة للخزانة الفرنسية، وممثل الاتحاد الأوروبي، ومنظمات أوروبية أخرى، وهي من رسم ما يسمى بالمخطط الخماسي الذي يبلغ عامه الخامس هذه السنة، ويكفي أن نعرف حجم الكوارث التي خلفها هذا المخطط (أكثر من82.6 مليار دينار) والعجز في ميزان المدفوعات حتى ندرك مدى فداحة ما يخطط لهذا الشعب الطيب الذي تعتبر ثورته تمردا حقيقيا على النفوذ الغربي وأدواته المحلية.

من يملأ الفراغ

إنّ الفراغ الحاصل الآن في تونس لا يملؤه إلا حزبٌ سياسي مخلص، يلتف حوله المخلصون من أبناء الأمة، ويناصرهم أهل القوة والرأي والأوساط السياسية الفاعلة في البلد، وتقف الأمة –بأغلبها- خلفهم تساندهم الرأي والفكر، وبهذا يُملأ الفراغ بالفعل، وتحصل حالة الاستقرار الصحيح، ثم تحصل النهضة الصحيحة بعد ذلك نتيجة الانسجام بين فكر الأمة وقادتها وقوانينها ودستورها وطريقة حياتها، وتصبح الأمة بعد ذلك في ارتقاء دائم ترتفع من عليٍ إلى أعلى.

وبمعنىً آخر: إنّ المنقذ الحقيقي لتونس وللأمة اليوم هو حزب مخلص يتقدم الأمة عن طريق النصرة الحقيقة، التي لا تستند إلى أية دولة أجنبية، بل تستند إلى قوى الأمة الحقيقية وهي قوى الجيش المخلصة، وبمساندة ومؤازرة أبناء الأمة في ذلك البلد، فيقيم حكم الله في هذه الدولة، ويباشر ذلك عملياً في المجتمع، وتسانده جماهير المسلمين بكافة شرائحهم في المجتمع.

د, الأسعد العجيلي, رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير – تونس

CATEGORIES
TAGS
Share This