انقشع غبار الشد والجذب وخفت ضجيج الرافضين لتشكيلة “هشام المشيشي” والمؤيدين لها, ولم يبق إلا صدى أصوات تمجد نجاح المسار الديمقراطي في تونس، كيف لا وقد تداولت على السلطة بعد الثورة إلى الآن ثماني حكومات بشكل سلس ومرن أي بمعدل حكومة كل -عام وربع- وذلك هو مبلغهم من العلم.
تتشكل حكومة وتنحل أخرى مع الحرص الشديد على عدم الخروج عن المسار الذي رسمه لهم المسؤولون الكبار إلى درجة أصبح تغيير الحكومات غاية في حدّ ذاته من أجل إبراز فكرة التداول على السلطة والإيهام بأنها مكسب ما كنا لنضفر به لولا الديمقراطية ومسارها الذي رسمته القوى الاستعمارية, وجاري الآن العمل على جعله نموذجا يقع تعميمه لاحقا على العالم الإسلامي, وبالتالي تقطع تلك القوى الطريق عن البديل للنظام الديمقراطي المتهالك, وهو الإسلام بوصفه مبدأ يعالج جميع مشاكل الحياة.
لقد سدت جميع المنافذ في وجه النظام الديمقراطي واتسع عليه الخرق واستنفد أعوانه كل أرصدتهم من الوعود الزائفة والأماني الخادعة. فالثورة كشفت جميع عورات نظامهم الذي كان في ما مضى يروج الأكاذيب ثم تجبر عصاه الغليظة الناس على تصديقها والاقتناع بأنهم يجنون من شوكه عنبا.
ثماني حكومات بالتمام والكمال لم تنجز ولا واحدة منها النزر القليل مما اندلعت الثورة من أجله، فبعد إسقاط عرش “بن علي” ظلت “دار لقمان على حالها” بل ازداد الوضع سوءا, فنسبة البطالة في ارتفاع مطرد، والمديونية تفاقمت والتضخم قفز فوق جميع الحواجز. أما المقدرة الشرائية فقد لامست قاع التردي وباتت الغالبية العظمى من أهل تونس غير قادرة على تحصيل قوت يومها تماما كما هو الحال زمن حكم “بن علي”, لهذا بحث القائمون على هذا النظام بتعليمات وأوامر تأتيهم تباعا من وراء البحار عن مخرج من هذا المطب الذي وقع فيه النظام الديمقراطي علما أنه -النظام- يعاني من الترهل ويحمل أراض التفكك في معاقله وعقر داره ولم يعد الأمر مقتصرا على البلدان التي تطبقه بالتبعية والارتهان للقوى الاستعمارية. بحثوا عن مخرج ولم يجدوا غير تغيير الحكومات حتى يجدوا لنظامهم الوضعي موطأ قدم في سوق الكذب والدجل ويتمكنوا من تسويق محاسنه ومزاياه الخادعة، وهذا ما قام به كبيرهم الذي لم يترك كلمة ثناء للديمقراطية إلا وأطلقها, إلى درجة أن جعل لها أياما آخرها يوم منح حكومة “المشيشي” ثقة أعضاء مجلس النواب .لقد قال “راشد الغنوشي” رئيس حركة النهضة ومجلس نواب الشعب “هذا يوم من أيام الديمقراطية في تونس”, نعم جعل لوثنه -الديمقراطية- أياما يضاهي بها أيام الله التي هي نعمه والأيام التي نصر فيها الله الإسلام وأظهره على الدين كله, كما تعني كل الأيام التي أقامها الله في الأرض عبرة للناس.
إن “راشد الغنوشي” وكل من يدين بالولاء “للمسؤول الكبير” مثله هَمهم الأوحد ومنتهى غايتهم هو إعلاء كلمة الديمقراطية ورفع رايتها وجعلها قبلة الناس يولونها وجههم ولا يريدون عنها حولا, لهذا تراهم يسارعون إلى الإعلاء من شأنها صباحا مساء. وبما أنها, أي الديمقراطية, لا تقضي على فقر ولا تغني من جوع التجئوا إلى إسقاط حكومة والمجيء بأخرى ليغطوا عن فشلهم المنبثق عن فشل النظام الديمقراطي وإيهام الناس بأن الوضع تحسن على ما كان عليه زمن “بن علي”. ففي عهده لم يكن هناك تداول على السلطة ولا مجال لتغيير حكومة عجزت عن رعاية شؤون الناس. وبما أن من قذفت بهم أمواج الثورة على ساحل السلطة يحبون البلاد كما لم يحبها أحد, عاهدوا مسؤولهم الكبير على تنفيذ أوامره بحذافيرها دون تلكأ أو تلدد, وسيكونون على قلب رجل واحد رغم خلافاتهم ومشاحناتهم التي لا تفسد إجماعهم على نصرة الديمقراطية بجميع الوسائل المتاحة لهم. ووجدوا أنجعها و أيسرها ذهاب حكومة وقدوم أخرى تحت أية ذريعة كانت فهم لا يعجزهم إيجاد المبررات والتعلات لصنع المناخ الملائم للوصول إلى مآربهم وإبراز نفع الديمقراطية للبلاد والعباد, وهذا ما فعلوه مع رئيس الحكومة السابق “إلياس الفخفاخ” فهم يعلمون مسبقا علم اليقين بفساده الذي سموه بتضارب المصالح ولكنهم غضوا الطرف عنه وعن شركاته والمليارات التي غنمها من وراء صفقات أبرمها مع الدولة إلى حين الوقت المناسب ليقدموه كبش فداء ويجدون بذلك المبرر الذي يبدو مقنعا لإسقاط حكومته, تماما كما هو الحال مع حكومة “هشام المشيشي” فقد تركوا الباب مواربا ليسهل خروج حكومته ودخول أخرى جديدة، حيث عبرت معظم الكتل الممثلة للأحزاب في مجلس النواب عن رفضها لحكومة “المشيشي” لكونها مستقلة عن الأحزاب وبالتالي لا يمكن محاسبتها إذا فشلت في أداء مهامها-وحتما ستفشل- لهذا فهم سيمنحونها أصواتهم ويحجبون عنها ثقتهم. وسوف لن ننتظر طويلا حتى نرى القوم يلمحون إلى ضرورة تغيير حكومة “المشيشي” ثم سنسمعهم يصرخون ويولولون مطالبين بحتمية رحيل هذه الحكومة الفاشلة والعاجزة… ثم سرعان ما سنشاهد طوابير الخبراء وجحافل الأكفاء يتوافدون على قصر الضيافة للتشاور مع الشخصية الأقدر المكلفة بتشكيل حكومة جديدة. مدة قد تطول أو تقصر وسنرى نفس المشهد يتكرر. تشكيل حكومة تلو الأخرى فقط ليخرج علينا في الأخير من على شاكلة الغنوشي ويذكرنا بأيام الديمقراطية ونعمها وفضائلها ثم يمكث في داره يترقب شهادة شكر وتقدير من مسؤوله الكبير على ما قدمه من جليل الأعمال له وللاستعمار عموما.